اعلم أن قوله :﴿قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ﴾ بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت، روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية، وقيل نقرها فانتبهت فزعة.
أما قوله :﴿كِتَـابٌ كَرِيمٌ﴾ ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : حسن مضمونه وما فيه وثانيها : وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها : أن الكتاب كان مختوماً وقال عليه السلام :"كرم الكتاب ختمه" وكان عليه السلام "يكتب إلى العجم، فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتماً".
أما قوله :﴿إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ﴾ ففيه أبحاث :
البحث الأول : أنه استئناف وتبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إليَّ كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت، وقرأ عبدالله ﴿إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ﴾ عطفاً على ﴿إِنِّى ﴾ وقرىء ﴿إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه ﴾ بالفتح وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إليَّ أنه من سليمان وثانيهما : أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم الله كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله وقرأ أبي (أن من سليمان وأن بسم الله) على أن المفسرة، وأن في (ألا تعلوا) مفسرة أيضاً ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك، وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد.
البحث الثاني : يقال لما قدم سليمان اسمه على قوله :﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ﴾ ؟
جوابه : حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم الله الرحمن الرحيم، وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب والله تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٦
البحث الثالث : أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود، وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود، وذلك لأن المطلوب من الخلق، إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله :﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ﴾ مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً.
وأما قوله :﴿أَلا تَعْلُوا عَلَىَّ﴾ فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر.
وأما قوله :﴿وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ﴾ فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن، فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا، فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه : معاذ الله أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز، والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلاً آخر.
أما قوله :﴿قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى﴾ فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى، وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم ﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ إلا بمحضركم.
أما قوله :﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ﴾ فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات (والعدد) والمراد بالبأس النجدة (والثبات) في الحرب، وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين : أحدهما : إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد، والآخر قولهم :﴿وَالامْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا والله أعلم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٦
٥٥٧
اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها، وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها، أي خربوها وأذلوا أعزتها، فذكرت لهم عاقبة الحرب.
وأما قوله :﴿وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ﴾ فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام الله تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها، وأنها ذكرته تأكيداً لما وصفته من حال الملوك. أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها :﴿فَنَاظِرَة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان، ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين : الأول : قوله :﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال.


الصفحة التالية
Icon