أما قوله :﴿بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الهدية اسم للمهدي، كما أن العطية اسم للمعطي، فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى إليه، والمضاف إليه ههنا هو المهدى إليه، والمعنى أن الله تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى، وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه، فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية، بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم، لكن حالي خلاف حالكم وثانيها : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثلها وثالثها : كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها الثاني : قوله :﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ فقيل ارجع خطاب للرسول، وقيل للهدهد محملاً كتاباً آخر.
أما قوله تعالى :﴿لا قِبَلَ﴾ أي لا طاقة، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة، أي لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود :(لا قبل لهم بهم)، والضمير في (منها) لسبأ، والذل أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٧
٥٥٨
اعلم أن في قوله تعالى :﴿قَالَ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا﴾ دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان، ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهوراً، فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها، واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه : أحدها : أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام، حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت وثانيها : أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر، ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره، والمقصود اختبار عقلها، وقوله تعالى :﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى ﴾ (النمل : ٤١) كالدلالة على ذلك وثالثها : قال قتادة : أراد أن يأخذه قبل إسلامها، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ورابعها : أن العرش سرير المملكة، فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه.
أما قوله :﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ﴾ فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين الخبيث المارد.
أما قوله :﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ﴾ فالمعنى من مجلسك، ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت، فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس، وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس، وقيل إلى انتصاف النهار.
وأما قوله :﴿لَقَوِىٌّ﴾ أي على حمله ﴿أَمِينٌ﴾ آتي به كما هو لا أختزل منه شيئاً.
أما قوله :﴿قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ ففيه بحثان :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٨
الأول : اختلفوا في ذلك الشخص على قولين : قيل كان من الملائكة، وقيل كان من الإنس، فمن قال بالأول اختلفوا، قيل هو جبريل عليه السلام، وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه : أحدها : قول ابن مسعود : إنه الخضر عليه السلام وثانيها : وهو المشهور من قول ابن عباس : إنه آصف بن برخيا وزير سليمان، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب وثالثها : قول قتادة : رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم ورابعها : قول ابن زيد : كان رجلاً صالحاً في جزيرة في البحر، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان وخامسها : بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولاً، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت، وهذا القول أقرب لوجوه : أحدها : أن لفظة (الذي) موضوعة في / اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام، فوجب انصرافه إليه، أقصى ما في الباب أن يقال، كان آصف كذلك أيضاً لكنا نقول إن سليمان عليه السلام، كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني : أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية/ فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام، وأنه غير جائز الثالث : أن سليمان عليه السلام، لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع : أن سليمان قال :﴿هَـاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
البحث الثاني : اختلفوا في الكتاب، فقيل اللوم المحفوظ، والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام. وقيل كتاب سليمان، أو كتاب بعض الأنبياء، ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح، وأن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش، فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات.


الصفحة التالية
Icon