أما قوله تعالى :﴿قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا ءَاتِيكَ﴾ ففيه بحثان :
الأول :(آتيك) في الموضعين، يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٨
الثاني : اختلفوا في قوله :﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ على وجهين : الأول : أنه أراد المبالغة في السرعة، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة، وهذا قول مجاهد الثاني : أن نجريه على ظاهره، والطرف تحريك الأجفان عند النظر، فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي، وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين، فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وههنا سؤال : وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان، وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه : أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة، ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة، وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال، ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة، ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى، أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه : أحدها : أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر وثانيها : أنه يستمد به المزيد على ما قال :﴿لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ﴾ (إبرهيم : ٧)، وثالثها : أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف، ثم قال :﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ﴾ غني عن شكره لا يضره كفرانه، كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٨
٥٥٩
اعلم أن قوله :﴿نَكِّرُوا ﴾ معناه اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه، وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة، وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل، ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد، فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها.
أما قوله :﴿نَنظُرْ﴾ فقرىء بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف، واختلفوا في ﴿أَتَهْتَدِى ﴾ على وجهين : أحدهما : أتعرف أنه عرشها أم لا ؟
كما قدمنا الثاني : أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال :﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾ وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة، فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلاً من المكان البعيد إلى هناك، وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام، ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها لأغراض كانت له، فعند ذلك سألها.
أما قوله :﴿أَهَـاكَذَا عَرْشُكِ ﴾ فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات، حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة، ولم يقل أهذا عرشك، ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً فقالت :﴿كَأَنَّه هُوَ ﴾ ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف.
أما قوله :﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا﴾ ففيه سؤالان، وهو أن هذا الكلام كلام من ؟
وأيضاً فعلى أي شيء عطف هذا الكلام ؟
وعنه جوابان : الأول : أنه كلام سليمان وقومه، وذلك لأن بلقيس / لما سئلت عن عرشها، ثم إنها أجابت بقولها :﴿كَأَنَّه هُوَ ﴾ فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني : أنه من كلام بلقيس موصولاً بقولها :﴿كَأَنَّه هُوَ ﴾ والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة، ثم أن قوله :﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّه ﴾ إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٩


الصفحة التالية
Icon