أما قوله تعالى :﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّه ﴾ ففيه وجهان : الأول : المراد : وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل، وقرىء أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها، واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار، بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب : أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال، وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سبباً لحصول الداعية المستلزمة للكفر، وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقاً لقولنا والله أعلم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٩
٥٦١
اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعياً لها إلى الإسلام وهو قوله ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ ﴾ والصرح القصر كقوله :﴿فِرْعَوْنُ يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا﴾ وقيل صحن الدار، وقرأ ابن كثير عن ﴿سَاقَيْهَا ﴾ بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد، والممرد المملس، روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضاً، ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته، وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي / إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية، وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد، فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها، ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءاً راكداً فكشفت عن ساقيها لتخوضه، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً، وهذا على طريقة من يقول تزوجها، وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه، وحصل كشف الساق على سبيل التبع، فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت، وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة، فقالت :﴿رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى﴾ فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت :﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة، فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان، واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا، وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها، والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها، وليس لذلك ذكر في الكتاب، ولا في خبر مقطوع بصحته، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني، فقال النكاح من الإسلام، فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن، ولم يزل بها ملكاً والله أعلم.
القصة الثالثة ـ قصة صالح عليه السلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦١
٥٦٢
قرىء ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ بالضم على اتباع النون الباء.
أما قوله :﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ﴾ ففيه قولان : أحدهما : المراد فريق مؤمن وفريق كافر الثاني : المراد قوم صالح قبل أن يؤمن منهم أحد.
أما قوله :﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون خصماً لمن لم يقبلها، وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد.
أما قوله :﴿قَالَ يَـاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ ففيه بحثان : الأول : في تفسير استعجال السيئة قبل الحسنة وجهان : أحدهما : أن الذين كذبوا صالحاً عليه السلام لما لم ينفهم الحجاج توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب فقالوا :﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ﴾ (العنكبوت : ٢٩) على وجه الاستهزاء، فعنده قال صالح :﴿لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ﴾ والمراد أن الله تعالى قد مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه وثانيهما : أنهم كانوا يقولون لجهلهم إن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه أتينا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم، وقال هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦٢


الصفحة التالية
Icon