البحث الثاني : أن المراد بالسيئة العقاب وبالحسنة الثواب، فأما وصف العذاب بأنه سيئة فهو مجاز وسبب هذا التجويز، إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأما وصف الرحمة بأنها حسنة فمنهم من قال إنه حقيقة ومنهم من قال إنه مجاز والأول أقرب، ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرر هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد، وهو قولهم :﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ﴾ أي / تشاءمنا بك لأن الذي يصيبنا من شد وقحط فهو بشؤمك وبشؤم من معك.
قال صاحب "الكشاف" كان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيمن وإن مر بارحاً تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته، فأجاب صالح عليه السلام بقوله :﴿طَـا اـاِرُكُمْ عِندَ اللَّه ﴾ أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وقيل بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب/ والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيجب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره، ثم بين أهذا جهل منهم بقوله :﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول، ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته، ثم إنه سبحانه قال :﴿وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الارْضِ﴾ والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفتهم وأحوالهم لا لاختلاف السبب، فبين تعالى أنهم يفسدون في الأرض ولا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح، فلهذا قال :﴿يُفْسِدُونَ فِى الارْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾ ثم بين تعالى أن من جملة ذلك ما هموا به من أمر صالح عليه السلام.
أما قوله :﴿تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ﴾ فيحتمل أن يكون أمراً أو خبراً في محل الحال بإضمار قد، أي قالوا متقاسمين، والبيات متابعة العدو ليلاً.
أما قوله :﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّه مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِه ﴾ يعني لو اتهمنا قومه حلفنا لهم أنا لم نحضر. وقرىء (مهلك) بفتح الميم واللام وكسرها من هلك ومهلك بضم الميم من أهلك، ويحتمل المصدر والمكان والزمان، ثم إنه سبحانه قال :﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ وقد اختلفوا في مكر الله تعالى على وجوه : أحدها : أن مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه، ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله تعالى صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فهلكوا وهلك الباقون بالصيحة وثانيها : جاؤا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة، يرون الأحجار ولا يرمون رامياً وثالثها : أن الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦٢
أما قوله :﴿أَنَّا دَمَّرْنَـاهُمْ﴾ استئناف، ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هي تدمرهم أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر كان أي كان عاقبة مكرهم الدمار.
أما قوله :﴿خَاوِيَةَ ﴾ فهو حال عمل فيها ما دل عليه تلك، وقرأ عيسى بن عمر (خاوية) بالرفع على خبر المبتدأ المحذوف والله أعلم.
القصة الرابعة ـ قصة لوط عليه السلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦٢
٥٦٣
قال صاحب "الكشاف"، واذكر لوطاً أو أرسلنا لوطاً بدلالة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ﴾ (النمل : ٤٥) عليه، و(إذ) بدل على الأول ظرف على الثاني.
أما قوله :﴿أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ﴾ فهو على وجه التنكير وإن كان بلفظ الاستفهام وربما كان التوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ.


الصفحة التالية
Icon