اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم، ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر، ثم بين الوجه في كون القرآن معجزاً، ثم فرع عليه نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة، وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة، لما أن هذه الاْشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق وهذا هو النهاية في جودة الترتيب. واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة، وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة، فذكر أولاً من علامات القيامة دابة الأرض، والناس تكلموا فيها من وجوه : أحدها : في مقدار جسمها، وفي الحديث أن طولها ستون ذراعاً، وروي أيضاً أن رأسها تبلغ السحاب. وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب وثانيها : في كيفية خلقتها، فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها : رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن إيَّل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة (بقرة) وذنب كبش وخف بعير وثالثها : في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنه تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام ورابعها : في موضع خروجها "سئل النبي صلى الله عليه وسلّم من أين تخرج الدابة ؟
فقال من أعظم المساجد / حرمة على الله تعالى المسجد الحرام" وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية وخامسها : في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات، تخرج بأقصى اليمن، ثم تكمن، ثم تخرج بالبادية، ثم تكمن دهراً طويلاً، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون (نظارة).
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٧٤
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور، فإن صح الخبر فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل وإلا لم يلتفت إليه.
أما قوله تعالى :﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله، والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها، أما دابة الأرض فقد عرفتها.
وأما قوله :﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ فقرىء (تكْلِمهم) من الكلم وهو الجرح، روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه، وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه. واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً على معنى التكثير يقال فلان مكلم، أي مجرح. وقرأ أبي (تنبئهم)، وقرأ ابن مسعود تكلمهم بأن الناس، والقراءة بإن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك، أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة. فإن قيل إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف يقول (بآياتنا) ؟
جوابه : أن قولها حكاية لقول الله تعالى، أو على معنى بآيات ربنا، أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها، كما يقال بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا، وإنما هي خيل مولاه وبلاده، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار، أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وأما قوله :﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـاَايَـاتِنَا﴾ فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة، فالفرق بين من الأولى والثانية، أن الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين كقوله :﴿مِنَ الاوْثَـانِ﴾ (الحج : ٣٠).
أما قوله :﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ معناه يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار، وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه، كما وصفت جنود سليمان بذلك وقوله :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـاَايَـاتِى﴾ فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم، فالمراد كل الآيات فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها.
أما قوله :﴿وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾ فالواو للحال كأنه قال أكذبتم بها، بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٧٤


الصفحة التالية
Icon