وأما قوله :﴿فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً، ولكن فرعون لما / ادعى أنه كان كافراً في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافراً في ذلك الوقت، واعترف بأنه كان ضالاً أي متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك. أما قوله إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله ؟
قلنا كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع فلعل قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت، أو إن كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررنا، قوله ذلك القتل كان قتل خطأ، قلنا لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة، فوكزه كان قاتلاً قطعاً. ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه، فلهذا أقدم على الاستغفار على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل ألبتة على أنه كان رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك صادراً منه قبل النبوة، وذلك لا نزاع فيه
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٨٧
المسألة الخامسة : قالت المعتزلة الآية دلت على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله تعالى لأنه عليه السلام قال :﴿هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ ﴾ فنسب المعصية إلى الشيطان، فلو كانت بخلق الله تعالى لكانت من الله لا من الشيطان وهو كقول يوسف عليه السلام ﴿مِنا بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى ﴾ (يوسف : ١٠٠) وقول صاحب موسى عليه السلام :﴿وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ﴾ (الكهف : ٦٣) وقوله تعالى :﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ﴾ (الأعراف : ٢٧).
أما قوله :﴿رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ ففيه وجوه : أحدها : أن ظاهره يدل على أنه قال إنك لما أنعمت علي بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين، وهذا يدل على أن ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية، إذ لو كانت معصية، لنزل الكلام منزلة ما إذا قيل إنك لما أنعمت علي بقبول توبتي عن تلك المعصية فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية وثانيها : قال القفال : كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً، والباء للقسم أي بنعمتك علي وثالثها : قال الكسائي والفراء إنه خبر، ومعناه الدعاء كأنه قال فلا تجعلني ظهيراً، قال الفراء وفي حرف عبدالله ﴿فَلا تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾، واعلم أن في الآية دلالة على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة. وقال ابن عباس : لم يستثن ولم يقل فلن أكون ظهيراً إن شاء الله، فابتلي به في اليوم الثاني، وهذا ضعيف لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة، وإنما خاف منه ذلك العدو فقال :﴿إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ﴾ (القصص : ١٩) لا أنه وقع منه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٨٧
٥٩٢
اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفاً من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به، وخرج على استتار ﴿فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَه ﴾ وهو الإسرائيلي ﴿بِالامْسِ يَسْتَصْرِخُه ﴾ يطلب نصرته بصياح وصراخ، قال له موسى :﴿إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ﴾ قال أهل اللغة الغوي يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل أي إنك لمغو لقومي فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي. واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام، فقال كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه ﴿إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ﴾ ؟
الجواب من وجهين : الأول : أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظاً جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات ﴿اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ﴾ (الأعراف : ١٣٨) فالمراد بالغوي المبين ذلك الثاني : أنه عليه السلام إنما سماه غوياً لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد. واختلفوا في قوله تعال :﴿قَالَ يَـامُوسَى ا أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ﴾ أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي ؟
فقال بعضهم لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده، فقال هذا القول، وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو، وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف، وقال آخرون بل هو / قول القبطي، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي، والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال :﴿فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَـامُوسَى ﴾ فهذا القول إذن منه لا من غيره وأيضاً فقوله :﴿إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ﴾ لا يليق إلا بأن يكون قولاً للكافر.


الصفحة التالية
Icon