المسألة الرابعة : العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف، يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي. إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض، ولا يبقى بالعامل أيضاً لأنه هالك كما قال تعالى :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ﴾ فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق، لكن الباقي هو وجه الله / لقوله :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه ﴾ (القصص : ٨٨) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحاً، وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحاً، فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصاً لله.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الخامسة : هذا يقتضي أن تكون النية شرطاً في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع لله، ويندرج فيها النية في الصوم خلافاً لزفر، وفي الوضوء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله.
المسألة السادسة : العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى :﴿وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه ﴾ (فاطر : ١٠) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى :﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ (فاطر : ١٠) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل، ولهذا قدم الإيمان على العمل، وههنا لطيفة، وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه، وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته، وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته. فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها، والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية، وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب" والتائب النادم بقلبه/ وكذلك قوله عليه السلام :"يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم" يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله وحضر ذهنه، فعلم أن لعمل القلب يأتي الله وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله، وهذا تنبيه على فضل عمل القلب.
المسألة السابعة : ذكر الله من أعمال العبد نوعين : الإيمان والعمل الصالح، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال :﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ﴾ فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، وهذا يقتضى أموراً الأول : المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني : الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة، وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية.
الأمر الثالث : هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر الله عيوبه في الأخرى، والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى، فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم، والله أعلم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الثامنة : قوله :﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ﴾ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ بأسرها من أين يكون لهم سيئة ؟
فنقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، مثاله : إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن / إليكم، لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه، أو يحترم ابن من لم يولد له ولد، بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب، ويحترم ابن من له ابن، فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني : ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى :﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ (التوبة : ٤٣).
المسألة التاسعة : قوله :﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما : لنجزينهم أحسن من أعمالهم. وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي، وعلى الوجه الثاني : معناه قريب من معنى قوله تعالى :﴿مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ (الأنعام : ١٦٠) وقوله :﴿فَلَه خَيْرٌ مِّنْهَا ﴾ (النمل : ٨٩).


الصفحة التالية
Icon