المسألة العاشرة : ذكر حال المسيء مجملاً بقوله :﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ﴾ إشارة إلى التعذيب مجملاً. وذكر حال المحسن مجملاً بقوله :﴿وَمَن جَـاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـاهِدُ لِنَفْسِه ﴾ ومفصلاً بهذه الآية، ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٢
٣٣
الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها ؟
نقول : لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها، وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضاً للمكلف على الطاعة، ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه، فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلاً عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله.
المسألة الثانية : في القراءة قرىء حسناً وإحساناً وحسناً أظهر ههنا، ومن قرأ إحساناً فمن قوله تعالى :﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ /البقرة : ٨٣) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن الله تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول، ونكر حسناً ليدل على الكمال، كما يقال إن لزيد مالاً.
المسألة الثالثة : في قوله :﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز، وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين، فاتباع العبد أبويه / لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما، وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل، وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة.
المسألة الرابعة : الإحسان بالوالدين مأمور به، لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة فهما سبب مجازاً، والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه، ثم قال تعالى :﴿وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَآ ﴾ فقوله :﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ﴾ يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلاً عن التقليد في الكفر، فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلاً، لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول، فإذا لم يشرك تقليداً ويستحيل الشرك مع العلم، فالشرك لا يحصل منه قط.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٣
ثم قال تعالى :﴿إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يعني عاقبتكم ومآلكم إلي، وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر، ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة، وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر.
ثم قوله تعالى :﴿فَأُنَبِّئُكُم﴾ فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٣
٣٥
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في إعادة ﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ مرة أخرى ؟
نقول : الله تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتدياً وضالاً بقوله :﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ﴾ (العنكبوت : ٣) وذكر حال الضال مجملاً وحال المهتدي مفصلاً بقوله :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ﴾ ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هادياً ومضلاً فقوله :﴿وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ (العنكبوت : ٨) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله :﴿وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ﴾ بيان إضلالهما وقوله :﴿إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم﴾ بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر ﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ مرة لبيان حال المهتدي، ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولاً :﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ﴾، وقال ثانياً :﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ﴾ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء ﴿وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ (يوسف : ١٠١).


الصفحة التالية
Icon