المسألة الثانية : قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه الله باق، والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية، فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل.
المسألة الثالثة : قيل في معنى قوله :﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ﴾ لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٥
المسألة الرابعة : قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء، وعالم السموات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك تراباً بخلاف الإنسان فإنه يصير تراباً أو شيئاً آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله : تعالى لندخلهم في الصالحين} أي في المجردين الذين لا فساد لهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٥
٣٦
نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره وعناده، ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، والله تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى :﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ﴾ (العنكبوت : ٣) وبين أحوالهما بقوله :﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ (العنكبوت : ٤) إلى قوله :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ (العنبكوت : ٧) بين القسم الثالث وقال :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا﴾ ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى :﴿فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ﴾ وقوله :﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ وذلك لأن المنافق كان يشبه / نفسه بالمؤمن، ويقول إيماني كإيمانك فقال :﴿مِنْ﴾ يعني أنا والمؤمن حقاً آمنا، إشعاراً بأن إيمانه كإيمانه، وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال، وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم، فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا ؟
وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم، لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال، وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلاناً واستقبلناه ينكر، لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول :﴿مِنْ﴾ أي أنا والمحق.
المسألة الثانية : قوله :﴿فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ﴾ هو في معنى قوله :﴿وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى﴾ (آل عمران : ١٩٥) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك :﴿وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى﴾ (آل عمران : ١٩٥) وقال ههنا :﴿أُوذِىَ فِى اللَّهِ﴾ ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان فلا يترك الله، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية، والمؤمن أوذي ولم يترك سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٦
المسألة الثالثة : قوله :﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ قال الزمخشري : جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر، وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله، وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر، وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام، واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديداً، ولا يكون مديداً لأن العذاب إن كان شديداً كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب/ وإن كان مديداً كالحبس والحصر لا يكون شديداً وعذاب الله شديد وزمانه مديد، وأيضاً عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع، وأيضاً عذاب الناس عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده عذاب أليم، والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذاباً كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذاباً.


الصفحة التالية
Icon