المسألة الرابعة : قال :﴿فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحاناً من الإنسان كالصبر على العبادات.
المسألة الخامسة : لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه، لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازاً عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله، فنقول ليس كذلك، لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً، وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً، بل في باطنه الإيمان، ثم قال تعالى :﴿وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ (العنكبوت : ١٠) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية، وفيه فوائد نذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : قال :﴿وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ ولم يقل من الله، مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله :﴿أُوذِىَ فِى اللَّهِ﴾ وقوله :﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٦
المسألة الثانية : لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال :﴿وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ﴾ والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون :﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين : إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين، فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر، لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن، كما قال تعالى :﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ﴾ (الروم : ٤٧) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين، لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة، فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين، فالنصر لهم في الحقيقة.
المسألة الثالثة : في ليقولن قراءتان إحداهما : الفتح حملاً على قوله :﴿مَن يَقُولُ ءَامَنَّا﴾ يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول، وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما : الضم على الجمع إسناداً للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة، ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب، فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور، وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر، وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب، فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر، والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين، ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين، بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم/ والمنافق وإن تكلم فقال :﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ﴾ وقد سبق تفسيره، لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك :﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ وقال ههنا :﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن / والكافر، والكافر في قوله كاذب، فإنه يقول : الله أكثر من واحد، والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول الله واحد، ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر، فكان الحاصل هناك قسمين صادقاً وكاذباً وكان ههنا المنافق صادقاً في قوله فإنه كان يقول الله واحد، فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال :﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ﴾ واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال :﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٦
٣٧
لما بين الله تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم، وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، وبين أن عذاب الله فوقها، وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا ؟
فكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم، فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا، وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon