المسألة الأولى : ولنحمل صيغة أمر، والمأمور غير الآمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص ؟
فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، قال صاحب "الكشاف" : هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود، فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فقوله ولنحمل، أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب.
المسألة الثانية : قال :﴿وَمَا هُم بِحَـامِلِينَ مِنْ خَطَـايَـاهُم﴾ وقال بعد هذا :﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ (العنكبوت : ١٣) فهناك نفى الحمل، وههنا أثبت الحمل، فكيف الجمع بينهما، فنقول قول القائل : فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف، وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً، فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزاراً بسبب إضلالهم ويحملون أوزاراً بسبب ضلالتهم، كما قال النبي عليه السلام :"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء".
المسألة الثالثة : الصيغة أمر، والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب، فكيف يفهم قوله :﴿إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾ نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء، فكأنهم قالوا : إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئاً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٧
٣٧
في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : كان قولهم :﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ﴾ (العنكبوت : ١٢) صادراً لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها : أن قولهم :﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ﴾ كان عن اعتقاد أن لا حشر، فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها : أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم، يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٧
٣٨
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق يالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم، وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك، بل قبله كان كذلك كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ (العنكبوت : ٣) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما، ثم قال تعالى :﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في ذكر مدة لبثه ؟
نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحاً لبث ألف سنة تقريباً في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وأيضاً كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم.
المسألة الثانية : قال بعض العلماء الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل لفلان علي عشرة إلا ثلاثة، فكأنه قال علي سبعة، إذا علم هذا فقوله :﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ كقوله تسعمائة وخمسين سنة، فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها ؟
فنقول قال الزمخشري فيه فائدتان إحداهما : أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب فإن من قال :/ عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أن يقول : ألف سنة تقريباً لا تحقيقاً، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ويفهم منه التحقيق الثانية : هي أن ذكر لبث نوح عليه السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه السلام أولى بالصبر مع قصر مدة دعائه وإذا كان كذلك فذكر العدد الذي في أعلى مراتب الأعداد التي لها اسم مفرد موضوع، فإن مراتب الأعداء هي الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف، ثم بعد ذلك يكون التكثير بالتكرير فيقال عشرة آلاف، ومائة ألف، وألف ألف.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٨


الصفحة التالية
Icon