المسألة الثالثة : قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة والآية تدل على خلاف قولهم، والعقل يوافقها فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته، وإلا لما بقي، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام وإن كان غيره فله مؤثر، وينتهي إلى الواجب وهو دائم، فتأثيره يجوز أن يكون دائماً فأذن البقاء ممكن في ذاته، فإن لم يكن فلعارض لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع فظهر أن كلامهم على خلاف العقل والنقل (ثم نقول) لا نزاع بيننا وبينهم لأنهم يقولون العمر الطبيعي لا يكون أكثر من مائة وعشرين سنة ونحن نقول هذا العمر ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي، وأما العمر الطبيعي فلا يدوم عندنا ولا لحظة، فضلاً عن مائة أو أكثر.
قوله تعالى :﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـالِمُونَ﴾.
فيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم وإلا لعذب من ظلم وتاب، فإن الظلم وجد منه، وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله :﴿وَهُمْ ظَـالِمُونَ﴾ يعني أهلكهم وهم على ظلمهم، ولو كانوا تركوه لما أهلكهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٨
٣٩
في الراجع إليه الهاء في قوله :﴿جَعَلْنَـاهَا﴾ وجهان أحدهما : أنها راجعة إلى السفينة المذكورة وعلى هذا ففي كونها آية وجوه أحدها : أنه اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحاً وإنباؤه إياه به لما اشتغل بها فلا تحصل لهم النجاة وثانيها : أن نوحاً أمر بأخذ قوم معه ورفع قدر من القوت والبحر العظيم لا يتوقع أحد نضوبه، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة وثالثها : أن الله تعالى كتب سلامة السفينة عن الرياح المرجفة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصلت النجاة والثاني : أنها راجعة إلى / الواقعة أو إلى النجاة أي جعلنا الواقعة أو النجاة آية للعالمين.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٩
٣٩
لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما : النصب وهو المشهور، والثاني : الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم، والأول : فيه وجهان أحدهما : أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى اذكر إبراهيم، والثاني : أنه منصوب بمذكور وهو قوله :﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ (العنكبوت : ١٤) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم، وعلى هذا ففي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله :﴿لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله، وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبله ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلاً، وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج، لكن لما كان الوقوف ممتداً إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني : هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال، ولما كان هو مشتغلاً بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى وقوله :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه ﴾ إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إشارة إلى الاثبات، وقوله :﴿وَاتَّقُوه ﴾ إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في مكله يكون قد أتى بأعظم الجرائم، ويمكن أن يقال :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إشارة إلى الاتيان بالواجبات، وقوله :﴿وَاتَّقُوه ﴾ إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله، وفي الثاني الامتناع من الشرك، ثم قوله :﴿ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يعني عبادة الله وتقواه خير، والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعطيم وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلاً واعتباراً، أما عقلاً فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكناً قطعاً للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله، وأما التشريك فبطلانه عقلاً وكون خلافه خيراً وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجباً فكيف يكون شريكاً وإن كان واجباً لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل، وأما اعتباراً فلأن الشرف لن يكون ملكاً أو قريب ملك، لكن الإنسان لا يكون ملكاً للسموات والأرضين / فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٣٩


الصفحة التالية
Icon