المسألة الأولى : قال قوم إبراهيم ﴿اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ (العنكبوت : ٢٤) وقال قوم لوط ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ﴾ وما هددوه، مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط، فإن لوطاً كان من قومه، فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله : لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغنى والقدح في الدين صعب، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين، فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم، فقالوا إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب، فإن كنت صادقاً فأتنا بالعذاب، فإن قيل إن الله تعالى قال في موضع آخر ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ (النمل : ٥٦) وقال ههنا ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا ائْتِنَا﴾ فكيف الجمع ؟
فنقول لوط كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً عليهم التغيير والنهي والوعيد، فقالوا أولا ائتنا، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا، ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله وذكرهم بما لا يحب الله ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ فإن الله لا يحب المفسدين، حتى ينجز النصر.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٤
واعلم أن نبياً من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم، كما قال نوح :﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (نوح : ٢٧) يعني المصلحلة إما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا مصلحة فيهم، فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع، فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله، بطلت المصلحة حالا ومآلا، فعدمهم صار خيراً، فطلب العذاب.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٤
٥٦
لما دعا لوط على قومه بقوله :﴿رَبِّ انصُرْنِى﴾ استجاب الله دعاءه، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا :﴿إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ ﴾ يعني أهل سدوم، وفي الآية لطيفتان : إحداهما : أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين، / لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار. وقال :﴿جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ﴾ ثم قال :﴿أَنَّآ﴾ الثانية : حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا الإهلاك عللوا، وقالوا :﴿الْقَرْيَةِا إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار، نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٦


الصفحة التالية
Icon