المسألة الثانية : قال في قوم نوح ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ (العنكبوت : ١٤) وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وههنا قال :﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ ولم يقل وإنهم ظالمون، فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم، لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال :﴿فَأَخَذَهُمُ﴾ وكانوا ظالمين، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا : إنا مهلكوا فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك، فقالوا :﴿أَنَّآ﴾ لأن الله أمرنا، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين، فحسن أمر الله عند كل أحد، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله باهلاكهم بياناً لحسن الأمر، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه، ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطاً إشفاقاً عليه ليعلم حاله، أو لأن الملائكة لما قالوا :﴿أَنَّآ﴾ وكان إبراهيم يعلم أن الله لا يهلك قوماً وفيهم رسوله، فقال تعجباً إن فيهم لوطاً فكيف يهلكون، فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها، يعني نعلم أن فيهم لوطاً فلننجينه وأهله ونهلك الباقين، وههنا لطيفة : وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير، أعني إبراهيم والملائكة، وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيراً. أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة ﴿أَنَّآ﴾ أظهر الاشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحاً، وقال :﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ﴾ (العنكبوت : ٣٢) ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه، وقالوا إنك ذكرت لوطاً وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله، ثم استثنوا من الأهل امرأته، وقالوا :﴿إِلا امْرَأَتَه كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ﴾ أي من المهلكين، وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان، وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي/ وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق، وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم :﴿إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِا إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة، فقالت الملائكة إنها / من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم، أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين، وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى الله على القوم بالإهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطاً وأهله، وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٦
٥٦
ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعاً كناية عن العجز في تدبيرهم، قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً معقولاً غير ذلك، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم :﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٦


الصفحة التالية
Icon