المسألة الأولى : أنه تعالى قال من قبل :﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ﴾ (العنكبوت : ٣١) وقال ههنا :﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا﴾ فما الحكمة فيه ؟
فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجىء هناك قول / الملائكة ﴿أَنَّآ﴾ وهو لم يكن متصلاً بمجيئهم لأنهم بشروا أولاً ولبثوا، ثم قالوا : إنا مهلكوا وأيضاً فالتأني واللبث بعد المجىء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئاً من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير، إذا علم هذا فقوله ههنا :﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا﴾ يفيد الاتصال يعني خاف حين المجىء، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود، وقال :﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾ من غير أن، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك :﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ﴾ فقوله هنالك :﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ﴾ لا يدل على أن قولهم :﴿أَنَّآ أَرْسَلْنَا﴾ كان في وقت المجىء. وقوله :﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ﴾ دل على أن حزنه كان وقت المجىء. إذا علم هذا فنقول : هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم :﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ﴾ ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام، ثم قالوا :﴿لا تَخَفْ﴾ ولا تحزن ﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ فحصل تأخير الإنذار، وبقوله في حكاية لوط ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ﴾ حصل بيان تعجيل الحزن، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ﴾ قال في حكاية لوط ﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ﴾ لما ذكرنا من الفائدة.
المسألة الثانية :: قال هنا ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ وقال لإبراهيم ﴿لَنُنَجِّيَنَّه ﴾ بصيغة الفعل فهل فيه فائدة ؟
قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم :﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا ﴾ وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا :﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ﴾ أي ذلك واقع منا كقوله تعالى :﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ (الزمر : ٣٠) لضرورة وقوعه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٦
المسألة الثالثة : قولهم :﴿لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ﴾ لا يناسبه ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ﴾ لأن خوفه ما كان على نفسه، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن، وهي أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا :﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾.
المسألة الرابعة : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم ؟
فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم، فبالدلالة صارت واحدة منهم، ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا :﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى ا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ﴾ واختلفوا في ذلك، فقال بعضهم حجارة / وقيل نار وقيل خسف، وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء، ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا :﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ﴾ ثم قالوا :﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى ا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ ولم يعللوا التنجية، فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد، وعللوا الإهلاك بقولهم :﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ وقالوا بما كانوا، كما قالوا هناك :﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ (العنكبوت : ٣١) ثم قال تعالى :﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةَا بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل :


الصفحة التالية
Icon