قال الزمخشري : هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء، بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً، وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية، وهو صحيح، والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل : إني أعلم أن الله واحد حق، يعني أعلم هذه الجملة، وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم، لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة، ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق ؟
فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت، فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري، وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي، فقال الله تعالى : الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود إلا الله ولا إله سواه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥٩
٦٢
قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت ؟
فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ﴾.
يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله وفساد عبادة ما عداه، وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم، وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهراً وكون المدرك عاقلاً، ولا يحتاج إلى كونه عالماً بأشياء قبله، وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم، ثم إنه قد يكون دقيقاً في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالماً. إذا علم هذا فقوله :﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ﴾ يعني هو ضرب للناس أمثالاً وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء.
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصاً فيها عبر، وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر، وبين ضعف دليلهم بالتمثيل، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، وحصل يأس الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله :
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٦٢
٦٤


الصفحة التالية
Icon