جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨٤
المسألة الثانية : وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو ؟
فنقول وقوع تخريب السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع، لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبداً كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان، ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعباً ولهواً كما بين بقوله تعالى :﴿وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ (العنبكوت : ٦٤) وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق وخلق السموات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه.
المسألة الثالثة : قال ههنا :﴿كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ وقال من قبل :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلاً على الأصلين، وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل، فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا﴾ وقبله ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه، والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن إمكن هو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨٤
٨٤
وقال في الدليلين المتقدمين :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا ﴾ ولم يقل :﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا ﴾ إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض وقال ههنا :﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا ﴾ ذكرهم بحال أمثالهم ووبال أشكالهم، ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدم من عاد وثمود كانوا أشد منهم قوة ولم تنفعهم قواهم وكانوا أكثر مالاً وعمارة، ولم يمنع عنهم الهلاك أموالهم وحصونهم، واعلم أن اعتماد الإنسان على ثلاثة أشياء قوة جسمية فيه أو في أعوانه إذ بها المباشرة وقوة مالية إذ بها التأهب للمباشرة، وقوة ظهرية يستند إليها عند الضعف والفتور وهي بالحصون والعمائر، فقال تعالى : كانوا أشد منهم قوة في الجسم وأكثر منهم مالاً لأنهم أثاروا الأرض أي حرثوها، ومنه بقرة تثير الأرض، وقيل منه سمي ثوراً، وأنتم لا حراثة لكم فأموالهم كانت أكثر، وعمارتهم كانت أكثر لأن أبنيتهم كانت رفيعة وحصونهم منيعة، وعمارة أهل مكة كانت يسيرة ثم هؤلاء جاءتهم رسلهم بالبينات وأمروهم ونهوهم، فلما كذبوا أهلكوا فكيف أنتم، وقوله :﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ يعني لم يظلمهم بالتكليف، فإن التكليف شريف لا يؤثر له إلا محل شريف ولكن هم ظلموا أنفسهم بوضعها في موضع خسيس، وهو عبادة الأصنام واتباع إبليس، فكأن الله بالتكليف وضعهم فيما خلقوا له وهو الربح، لأنه تعالى قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم، والوضع في (أي) موضع كان الخلق له ليس بظلم، وأما هم فوضعوا أنفسهم في مواضع الخسران ولم يكونوا خلقوا إلا للربح فهم كانوا ظالمين، وهذا الكلام منا وإن كان في الظاهر يشبه كلام المعتزلة لكن العاقل يعلم كيف يقوله أهل السنة، وهو أن هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته، لكنه كان منهم ومضافاً إليهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨٤
٨٥