المسألة الرابعة : قوله :﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ فيه أقوال قال بعضهم : مودة بالمجامعة ورحمة بالولد تمسكاً بقوله تعالى :﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ﴾ (مريم : ٢) وقال بعضهم محبة حالة حاجة نفسه، ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه، وهذا لأن الإنسان يحب مثلاً ولده، فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك، وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب / الرحمة ويمكن أن يقال ذكر من قبل أمرين أحدهما : كون الزوج من جنسه والثاني : ما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه فالجنسية توجب السكون وذكر ههنا أمرين أحدهما : يفضي إلى الآخر فالمودة تكون أولاً ثم إنها تفضي إلى الرحمة، ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها وبالعكس وقوله :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ﴾ يحتمل أن يقال المراد إن في خلق الأزواج لآيات، ويحتمل أن يقال في جعل المودة بينهم آيات أما الأول : فلا بد له من فكر لأن خلق الإنسان من الوالدين يدل على كمال القدرة ونفوذ الإرادة وشمول العلم لمن يتفكر ولو في خروج الولد من بطن الأم، فإن دون ذلك لو كان من غير الله لأفضى إلى هلاك الأم وهلاك الولد أيضاً لأن الولد لو سل من موضع ضيق بغير إعانة الله لمات وأما الثاني : فكذلك لأن الإنسان يجد بين القرينين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام وليس ذلك بمجرد الشهوة فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة فهو من الله ولو كان بينهما مجرد الشهوة والغضب كثير الوقوع وهو مبطل للشهوة والشهوة غير دائمة في نفسها لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حريم حرمه هي من عند الله ولا يعلم ذلك إلا بفكر.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٩٣
٩٤
لما بين دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق وأظهرها خلق السموات والأرض، فإن بعض الكفار يقول في خلق البشر وغيره من المركبات إنه بسبب ما في العناصر من الكيفيات وما في السموات من الحركات وما فيها من الاتصالات فإذا قيل له فالسماء والأرض لم تكن لامتزاج العناصر واتصالات الكواكب فلا يجد بداً من أن يقول ذلك بقدرة الله وإرادته ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كثرة عددهم وصغر حجم خدودهم وقدودهم لا يشتبه بغيره والسموات مع كبرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة والثاني : اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوباً عنهما لا يبصرهما يقول هذا صوت فلان وهذا صوت فلان الآخر وفيه حكمة بالغة وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق / اختلاف الصور وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع بها التمييز، ومن الناس من قال المراد اختلاف اللغة كالعربية والفارسية والرومية وغيرها والأول أصح، ثم قال تعالى :﴿لايَـاتٍ لِّلْعَـالِمِينَ﴾ لما كان خلق السموات والأرض لم يحتمل الاحتمالات البعيدة التي يقولها أصحاب الطبائع واختلاف الألوان كذلك واختلاف الأصوات كذلك قال :﴿لِّلْعَـالِمِينَ﴾ لعموم العلم بذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٩٤
٩٦
لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو اختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة طلباً للرزق بالنهار، فذكر من اللوازم أمرين، ومن المفارقة أمرين، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ قيل أراد به النوم بالليل والنوم بالنهار وهي القيلولة : ثم قال :﴿وَابْتِغَآؤُكُم﴾ أي فيهما فإن كثيراً ما يكتسب الإنسان بالليل، وقيل أراد منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف البعض بالبعض، ويدل عليه آيات أخر. منها قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِا فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ﴾ (الإسراء : ١٢) وقوله :﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ (النبأ : ١٠، ١١) ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله، فأخر الابتغاء وقرته في اللفظ بالفعل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه، بل يرى كل ذلك من فضل ربه، ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع، منها قوله تعالى :﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ (الجمعة : ١٠) وقوله :﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه ﴾ (النحل : ١٤).