المسألة الثانية : قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر، لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل.
المسألة الثالثة : قال :﴿فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ وقال من قبل :﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وقال :﴿لِّلْعَـالِمِينَ﴾ فنقول المنام بالليل والابتغاء من فضله يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله فلم يقل آيات للعالمين ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان، فإنهما يدومان بدوام الإنسان / فجعلهما آيات عامة، وأما قوله :﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فاعلم أن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر، ومنها ما يكفي فيه مجرد الفكرة، ومنها ما لا يخرج بالفكر بل يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه، فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج إلى بعض الناس في تفهمه إلى أمثلة حسية كالأشكال الهندسية لكن خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكر خامد الذكر، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة، فقال :﴿لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٩٦
٩٧
لما ذكر العرضيات التي للأنفس اللازمة والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق، وقال :﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لما قدم دلائل الأنفس ههنا قدم العرضيات التي للأنفس وأخر العرضيات التي للآفاق كما أخر دلائل الآفاق، بقوله :﴿وَمِنْ ءَايَـاتِه خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الروم : ٢٢).
المسألة الثانية : قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والابتغاء، وقدم في الآفاق العوارض المفارقة على اللوازم حيث قال :﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ﴾ وذلك لأن الإنسان متغير الحال والعوارض له غير بعيدة، وأما اللوازم فيه فقريبة. وأما السموات والأرض فقليلة التغير فالعوارض فيها أغرب من اللوازم، فقدم ما هو أعجب لكونه أدخل في كونه آية ونزيده بياناً فنقول : الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم وله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز عن غيره، وهو يتغير في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة، والسماء والأرض ثابتان لا يتغيران، ثم يرى في بعض الأحوال أمطار هاطلة وبروق هائلة، والسماء كما كانت والأرض كذلك، فهو آية دالة على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحل ويزيل أمراً مع ثبات المحل.
المسألة الثالثة : كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء.
المسألة الرابعة : كما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع، كذلك في تقدم البرق والرعد على المطر منفعة، وذلك لأن البرق إذا لاح، فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال / فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء، وأيضاً العرب من أهل البوادي فلا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب، واعلم أن فوائد البرق وإن لم تظهر للمقيمين بالبلاد فهي ظاهرة للبادين ولهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة، وآية، وأما كونه آية فظاهر فإن في السحاب ليس إلا ماء وهواء وخروج النار منها بحيث تحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق هو الله، قالت الفلاسفة السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء. فالهواء ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت ريح قوية تخرق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار كمساس جسم جسماً بعنف، وهذا كما أن النار تخرج من وقوع الحجر على الحديد فإن قال قائل الحجر والحديد جسمان صلبان والسحاب والريح جسمان رطبان، فيقولون لكن حركة يد الإنسان ضعيفة وحركة الريح قوية تقلع الأشجار، فنقول لهم البرق والرعد أمران حادثان لا بد لهما من سبب، وقد علم بالبرهان كون كل حادث من الله فهما من الله، ثم إنا نقول هب أن الأمر كما تقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة لا بد من سبب وينتهي إلى واجب الوجود، فهو آية للعاقل على قدرة الله كيفما فرضتم ذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٩٧