المسألة الأولى : قال :﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه ا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا﴾ ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضاً للمكلف عليه، وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، ووجه آخر : وهو أن الكفر قسمان : أحدهما : فعل وهو الاشراك والقول به، والثاني : ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشيء منه لا بد منه.
المسألة الثانية : قال :﴿فَعَلَيْهِ﴾ فوحد الكناية وقال :﴿فَلانفُسِهِمْ﴾ جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة : قال :﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُه ﴾ ولم يبين وقال في المؤمن ﴿فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ تحقيقاً لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة، وعند غيره أشار إليه إشارة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٠٨
١٠٨
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح، وهو الجزاء الذي يجازيه به الله / والملك إذا كان كبيراً كريماً، ووعد عبداً من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله :﴿مِّن فَضْلِه ﴾ يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ﴾ أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب، وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته، وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلاناً كيف يكون سروره.
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال :﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه ﴾ (الروم : ٤٤) وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال :﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ﴾ ثم قال تعالى :﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ﴾ لأن قوله ﴿مَن كَفَرَ﴾ في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله :﴿مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا﴾ لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهاراً للكرم والرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة، فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه، ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة، وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالاً وهو قوله تعالى :﴿يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ﴾ (الروم : ١٤، ١٥) قدم المؤمن على الكافر، وههنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله :﴿يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ (الروم : ٤٣) أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضاً قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الروم : ١٢) فذكر الكافر وإبلاسه، ثم قال تعالى :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ (الروم : ١٤) فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله :﴿يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ وقوله في حق المؤمن :﴿فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٠٨
١٠٩
قوله تعالى :﴿وَمِنْ ءَايَـاتِه أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك / بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً، ويذكر لأضراره سبباً لئلا يتوهم به الظلم فقال :﴿يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ قيل بالمطر كما قال تعالى :﴿بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه ﴾ (الأعراف : ٥٧) أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد.


الصفحة التالية
Icon