المسألة الأولى : في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال، والمحال أبعد من الممكن، ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير، والإفهام بالإشارة صعب، ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب، فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه، لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب، فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئاً، لأن غاية الإفهام بالكلام، فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى/ ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم.
المسألة الثانية : قال في الصم ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ ليكون أدخل في الامتناع، وذلك لأن الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة، فإذا ولى ولا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع ولا يفهم.
المسألة الثالثة : قال في الأصم ﴿لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ﴾ ولم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي ولكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجىء إلى الإيمان والداعي لا يسمع الأصم الدعاء.
المسألة الرابعة : قال :﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ﴾ أي ليس شغلك هداية العميان كما يقول القائل فلان ليس بشاعر وإنما ينظم بيتاً وبيتين، أي ليس شغله ذلك فقوله :﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ نفى ذلك عنه، وقوله :﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ﴾ يعني ليس شغلك ذلك، وما أرسلت له.
ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِم إِن تُسْمِعُ﴾ (النمل : ٨١) لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة، ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة، وهذا يدل على خلاف مذهب المعتزلة فإنهم قالوا الله يريد من الكل الإيمان، غير أن بعضهم يخالف إرادة الله، وقوله :﴿إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ﴾ دليل على أنه يؤمن فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلّم ما يجب أن يفعل فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى عنهم :﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ (البقرة : ٢٨٥).
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١١٢
١١٢
لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلاً من دلائل الآفاق وهو قوله :﴿اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ (الروم : ٤٨) وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله، فقال :﴿خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾ أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى :﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ (الأنبياء : ٣٧) ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنياً أي من حالة فقره، ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنيناً وطفلاً مولوداً ورضيعاً ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف، وقوله :﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله، وقوله :﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةًا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.