القسم الأول : أن يذكر فعلان يقتضيان عملاً وابدأ، ويكون المذكور بعدهما اسماً واحداً، كقولك : قام وقعد زيد، فزعم الفراء أن الفعلين جميعاً عاملان في زيد، والمشهور أنه لا يجوز ؛ لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين، والأقرب راجح بسبب القرب، فوجب إحالة الحكم عليه، وأجاب الفراء بأن تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات، أما في المعرفات فجائز، وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة، فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد.
القسم الثاني : إذا كان الاسم غير مفرد، وهو كقولك، قام وقعد أخواك، فههنا إما أن ترفعه بالفعل الأول، أو بالفعل الثاني، فإن رفعته بالأول قلت : قام وقعدا أخواك، لأن التقدير قام أخواك وقعدا، أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل، لأن الفعل لا يخلوا من فاعل مضمر أو مظهر، تقول : قاما وقعد أخواك، وعند البصريين إعمال الثاني أولى، وعند الكوفيين إعمال الأول أولى، حجة البصريين أن أعمالهما معاً ممتنع، فلا بدّ من / إعمال أحدهما، والقرب مرجح، فإعمال الأقرب أولى، وحجة الكوفيين أنا إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير، ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر، وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه.
القسم الثالث : ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين، وكان الاسم المذكور بعدهما مفرداً، فيقول البصريون إن إعمال الأقرب أولى، خلافاً للكوفيين، حجة البصريين وجوه ؛ الأول : قوله تعالى :﴿ءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ (الكهف : ٩٦) فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولاً : فأما أن يكون الناصب لقوله قطراً هو قوله آتوني أو أفرغ، والأول باطل، وإلا صار التقدير آتوني قطراً، وحينئذٍ كان يجب أن يقال أفرغه عليه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقوله قطراً هو قوله أفرغ ؛ الثاني : قوله تعالى :﴿هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ﴾ (الحاقة : ١٩) فلو كان العامل هو الأبعد لقيل هاؤم اقرؤه، وأجاب للكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز أعمال الأقرب، وذلك لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنا نجوز أعمال الأبعد، وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع. الحجة الثالثة : للبصريين أنه يقال : ما جاءني من أحد، فالفعل رافع، والحرف جار، ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب. الحجة الرابعة : أن إهمالهما وإعمالهما لا يجوز، ولا بدّ من الترجيح، والقرب مرجح، فأعمال الأقرب أولى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
واحتج الكوفيون بوجوه : الأول : أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعاً فأعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز، فوجب القول بأعمال الأول هناك، فإذا كان الاسم مفرداً وجب أن يكون الأمر كذلك طرداً للباب. الثاني : أن الفعل الأول وجد معمولاً خالياً عن العائق، لأن الفعل لا بدّ له من مفعول/ والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه، وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن أعمال الخالي عن العائق أولى من أعمال العامل المقرون بالعائق.
القسم الرابع : إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعاً فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون، وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين.
المسألة الثامنة : قول امرىء القيس : ـ
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد، لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال، وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال، وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذٍ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلاً من المال، وهذا متناقض، فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد، ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية والعقلية، وفيه أبواب : ـ
الباب الأول
في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا :(أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم)
وقت قراءة الاستعاذة :


الصفحة التالية
Icon