المسألة الأولى : اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة، وعن النخعي أنه بعدها، وهو قول داود الأصفهاني، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين، وهؤلاء قالوا : الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال :(آمين) فبعد ذلك يقول : أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين افتتح الصلاة قال : الله أكبر كبيراً ثلاث مرات، والحمد لله كثيراً ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه :﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل : ٩٨) دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط، وذكر الاستعاذة جزاء، والجزاء متأخر عن الشرط، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن، ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب، لقوله عليه السلام والسلام "ثلاث مهلكات" وذكر منها إعجاب المرء بنفسه ؛ فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة.
قالوا : ولا يجوز أن يقال : إن المراد من قوله تعالى :﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ (المائدة : ٦) أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كما في قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى﴾ والمعنى / إذا أردتم القيام إلى الصلاة، لأنه يقال : ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.
أما جمهور الفقهاء فقالوا : لا شك أن قوله :(فإذا قرأت القرآن فاستعذ) يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقاً بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه/ ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ا أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِه فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ﴾ (الحج : ٥٢) وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب.
وأقول : ههنا قول ثالث : وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن، جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.
حكم الاستعاذة :
المسألة الثانية : قال عطاء : الاستعاذة واجبة لكل قراءة، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، وقال ابن سيرين : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون : إنها غير واجبة.
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه : الأول : أنه عليه السلام واظب عليه، فيكون واجباً لقوله تعالى :﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾.
الثاني : أن قوله تعالى :﴿فَاسْتَعِذْ﴾ أمر، وهو للوجوب، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات، لأنه تعالى قال :﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة.
الثالث : أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم، لأن قوله :﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ﴾ مشعر بذلك، ودفع شر الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة.
الرابع : أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة.
التعوذ في الصلاة :
المسألة الثالثة : التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين، وقال مالك لا يتعوذ في / المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان، لنا الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، وكلاهما يفيد الوجوب، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب.
هل يسر بالتعوذ يجهر :
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه في "الأم" : روى أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ أو وعن أبي هريرة أنه جهر به، ثم قال : فإن جهر به جاز، وإن أسر به أيضاً جاز وقال في "الإملاء" : ويجهر بالتعوذ، فإن أسر لم يضر، بين أن الجهر عنده أولى، وأقول : الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية، والأصل هو العدم.


الصفحة التالية
Icon