لما ذكر الله أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا، فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من الله ودعاه مخلصاً أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه، فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله :﴿فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ﴾ وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله :﴿وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ وحد الموج وجمع الظلل، وقيل في معناه كالجبال، وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج، ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة.
المسألة الثانية : قال في العنكبوت ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ﴾ (العنكبوت : ٦٥) ثم قال :﴿فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ (العنكبوت : ٦٥) وقال ههنا ﴿فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ﴾ فنقول لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر.
المسألة الثالثة : قوله :﴿وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ﴾ في مقابلة قوله تعالى :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ ﴾ يعني يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظاً، ومعنى والكفور في موازنة الشكور، أما لفظاً فظاهر، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار، فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على / العهد فينقضه، وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٣٥
١٣٥
لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحداً أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير، ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد، وذلك لأن الملك إذا كان واحداً ويعهد منه أنه لا يعلم شيئاً ولا يستعرض عباده، لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف، ثم أكده بقوله :﴿لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه ﴾ وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه، ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى، وذكر الولد والوالد جميعاً فيه لطيفة، وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال وتحمل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد، ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد كالإهانة، فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الإبن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله، فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه ويتحمله هو بنفسه فقوله :﴿لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه ﴾ في دفع الآلام ﴿وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِه شَيْـاًا ﴾ في دفع الاهانة، وفي قوله :﴿لا يَجْزِى﴾ وقوله :﴿وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ﴾ (لطيفة أخرى) وهي أنا ذكرنا أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي ولا يكون من شأنه لأن الملك إذا كان يخيط شيئاً يقال إنه يخيط ولا يقال هو خياط، وكذلك من يحيك شيئاً ولا يكون ذلك صنعته يقال هو يحيك ولا يقال هو حائك، إذا علمت هذا فنقول الإبن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما له عليه من الحقوق والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك فقال في الوالد لا يجزي وقال في الولد ﴿وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٣٥
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون تحقيقاً لليوم يعني / اخشوا يوماً هذا شأنه وهو كائن لوعد الله به ووعده حق والثاني : أن يكون تحقيقاً لعدم الجزاء يعني :﴿لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه ﴾ لأن الله وعد بـ ﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (النجم : ٣٨) ووعد الله حق، فلا يجزي والأول أحسن وأظهر.


الصفحة التالية
Icon