وقوله تعالى :﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين، فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله :﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ﴾ ثم جعل نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم / يبعد أن يقال :﴿ثُمَّ سَوَّاـاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه ﴾ عائد إلى آدم أيضاً لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى :﴿لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ﴾ (غافر : ٥٧) ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله :﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاـاهُ﴾ أي كان طيناً فجعله منياً ثم جعله بشراً سوياً، وقوله تعالى :﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه ﴾ إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف، واعلم أن النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله :﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه ﴾ أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي، ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى :﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال وجعل لكم مخاطباً ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال :﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه ﴾ خاطبه من بعده وقال جعل لكم، فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى :﴿وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ﴾ (الروم : ٢٠) فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق، وههنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماءً مهيناً ثم خلقاً مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٤٣
المسألة الثانية : الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة، وذلك لأن الإنسان يسمع أولاً من الأبوين أو الناس أموراً فيفهمها ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجريها ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ومثاله شخص يسمع من أستاذ شيئاً ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها، ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتاباً، فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية.
المسألة الثالثة : ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع، لأن المصدر لا يجمع وذلك لحكمة وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل / واحد فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين، والأذن محله ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض/ وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير والقوة مستبدة، فذكر القوة في الأذن وفي العين والفؤاد للمحل نوع اختيار، فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار، ألا ترى أنك تقول سمع زيد ورأى عمرو ولا تقول سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادراً، لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته، فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له، والعين كالأصل وقوة الأبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ولأن السمع له قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما.


الصفحة التالية
Icon