فسر الظنون وبينها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث قطعوا بأن الغلبة واقعة وقوله :﴿وَإِذْ قَالَت طَّآاـاِفَةٌ مِّنْهُمْ يَـا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ﴾ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد كما يقال لا إقامة على الذل والهوان أي لا وجه لها ويثرب اسم للبقعة التي هي المدينة فارجعوا أي عن محمد، واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان ثم السامعون عزموا على الرجوع واستأذنوه وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه والعدو على أتباعه ثم بين الله كذبهم بقوله :﴿وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ ﴾ وبين قصدهم وما تكن صدورهم وهو الفرار وزوال القرار بسبب الخوف.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٢
١٦٢
إشارة إلى أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض، فإذا فاته الغرض لا يفعله، كمن يبذل المال لكي لا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله فقال الله تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً، وليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة، وقوله :﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم﴾ احتمل أن يكون المراد المدينة واحتمل أن يكون البيوت، وقوله :﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَآ﴾ يحتمل أن يكون المراد الفتنة ﴿إِلا يَسِيرًا﴾ فإنها تزول وتكون العاقبة للمتقين، ويحتمل أن يكون المراد المدينة أو البيوت أي ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً فإن المؤمنين يخرجونهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٢
١٦٢
بياناً لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً وندماً، وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدماً ثم هددهم بقوله :﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـاُولا﴾ وقوله :﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما وقع عليه القرار، وما قدره الله كائن فمن أمر بشيء إذا خالفه يبقى في ورطة العقاب آجلاً ولا ينتفع بالمخالفة عاجلاً، ثم قال تعالى :﴿وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا﴾ كأنه يقول ولو فررتم منه في يومكم مع أنه غير ممكن لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً فالعاقل لا يرغب في شيء قليل مع أنه يفوت عليه شيئاً كثيراً، فلا فرار لكم ولو كان لما متعتم بعد الفرار إلا قليلاً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٢
١٦٣
بياناً لما تقدم من قوله :﴿لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ﴾ وقوله :﴿وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ تقرير لقوله :﴿مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم﴾ أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٣
١٦٣
أي الذين يثبطون المسلمين ويقولون تعالوا إلينا ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلّم وفيه وجهان أحدهما : أنهم المنافقون الذين كانوا يقولون للأنصار لا تقاتلوا وأسلموا محمداً إلى قريش وثانيهما : اليهود الذين كانوا يقولون لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بمعنى تعال أو احضر ولا تجمع في لغة الحجاز وتجمع في غيرها فيقال للجماعة هلموا وللنساء هلمن، وقوله :﴿وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا﴾ يؤيد الوجه الأول وهو أن المراد منهم المنافقون وهو يحتمل وجهين أحدهما :﴿لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ بمعنى يتخلفون عنكم ولا يخرجون معكم وحينئذٍ قوله تعالى :﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ أي بخلاء حيث لا ينفقون في سبيل الله شيئاً وثانيهما : لا يأتون البأس بمعنى لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم، وقوله :﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ﴾ أي بأنفسهم وأبدانهم.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٦٣
١٦٣
إشارة إلى غاية جبنهم ونهاية روعهم، واعلم أن البخل شبيه الجبن، فلما ذكر البخل بين سببه وهو الجبن والذي يدل عليه هو أن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر / فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك، وأما بالنفس والبدن فكذلك فإن الجبان يخاف قرنه ويتصور الفشل فيجبن ويترك الإقدام، وأما الشجاع فيحكم بالغلبة والنصر فيقدم، وقوله تعالى :﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم﴾ أي غلبوكم بالألسنة وآذوكم بكلامهم يقولون نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو وقهرتم ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالإياب، وقوله :﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ قيل الخير المال ويمكن أن يقال معناه أنهم قليلو الخير في الحالتين كثيرو الشر في الوقتين في الأول يبخلون، وفي الآخر كذلك.


الصفحة التالية
Icon