ثم قال تعالى :﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ ﴾ لما بين الله عنايته في الأولى بين عنايته في الآخرة وذكر السلام لأنه هو الدليل على الخيرات فإن من لقي غيره وسلم عليه دل على المصافاة بينهما وإن لم يسلم دل على المنافاة وقوله :﴿يَوْمِ يَلْقَوْنَه ﴾ أي يوم القيامة وذلك لأن الإنسان في دنياه غير مقبل بكليته على الله وكيف وهو حالة نومه غافل عنه وفي أكثر أوقاته مشغول بتحصيل رزقه، وأما في الآخرة فلا شغل لأحد يلهيه عن ذكر الله فهو حقيقة اللقاء.
ثم قال تعالى :﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ لو قائل قائل الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فلا حاجة ولا عجز فحيث يلقاه الله يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الاعداد من قبل فنقول الإعداد للإكرام لا للحاجة وهذا كما أن الملك إذا قيل له فلان واصل، فإذا أراد إكرامه يهيىء له بيتاً وأنواعاً من الإكرام ولا يقول بأنه إذا وصل نفتح باب الخزانة ونؤتيه ما يرضيه فكذلك الله لكمال الإكرام أعد للذاكر أجراً كريماً والكريم قد ذكرناه في الرزق أي أعد له أجراً يأتيه من غير طلبه بخلاف الدنيا فإنه يطلب الرزق ألف مرة ولا يأتيه إلا بقدر. وقوله :﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ ﴾ مناسب لحالهم لأنهم لما ذكروا الله في دنياهم حصل لهم معرفة ولما سبحوه تأكدت المعرفة حيث عرفوه كما ينبغي بصفات الجلال ونعوت الكمال والله يعلم حالهم في الدنيا فأحسن إليهم بالرحمة، كما قال تعالى :﴿هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ﴾ وقال :﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ (الأحزاب : ٤٣) والمتعارفان إذا التقيا وكان أحدهما شفيقاً بالآخر والآخر معظماً له غاية التعظيم لا يتحقق بينهما إلا السلام وأنواع الإكرام.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٧٤
١٧٥
قد ذكرنا أن السورة فيها تأديب للنبي عليه السلام من ربه فقوله في ابتدائها :﴿مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ اشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه وقوله :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ﴾ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وقوله :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ﴾ إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق وقوله تعالى :﴿شَـاهِدًا﴾ يحتمل وجوهاً أحدهما : أنه شاهد على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى :﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقر : ١٤٣) وعلى هذا فالنبي بعث شاهداً أي متحملاً للشهادة ويكون في الآخرة شهيداً أي مؤدياً لما تحمله ثانيها : أنه شاهد أن لا إله إلا الله، وعلى هذا لطيفة وهو أن الله جعل النبي شاهداً على الوحدانية والشاهد لا يكون مدعياً فالله تعالى لم يجعل النبي في مسئلة الوحدانية مدعياً لها لأن المدعى من يقول شيئاً على خلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس والنبي عليه السلام كان ادعى النبوة فجعل الله نفسه شاهداً له في مجازاة كونه شاهداً لله فقال تعالى :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه ﴾ (المنافقون : ١) وثالثها : أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وقوله :﴿وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا﴾ فيه ترتيب حسن وذلك من حيث إن النبي عليه السلام أرسل شاهداً بقوله لا إله إلا الله ويرغب في ذلك بالبشارة فإن لم يكف / ذلك يرهب بالإندار ثم لا يكتفي بقولهم لا إله إلا الله بل يدعوهم إلى سبيل الله كما قال تعالى :﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ (النحل : ١٢٥) وقوله :﴿وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ أي مبرهناً على ما يقول مظهراً له بأوضح الحجج وهو المراد بقوله تعالى :﴿بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ (النحل : ١٢٥).
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٧٥
وفيه لطائف إحداها : قوله تعالى :﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه ﴾ حيث لم يقل وشاهداً باذنه ومبشراً وعند الدعاء قال وداعياً باذنه، وذلك لأن من يقول عن ملك إنه ملك الدنيا لا غيره لا يحتاج فيه إلى إذن منه فإنه وصفه بما فيه وكذلك إذا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يشقى يكون مبشراً ونذيراً ولا يحتاج إلى إذن من الملك في ذلك، وأما إذا قال تعالوا إلى سماطه، واحضروا على خوانه يحتاج فيه إلى إذنه فقال تعالى :﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه ﴾ ووجه آخر وهو أن النبي يقول إني أدعو إلى الله والولي يدعو إلى الله، والأول لا إذن له فيه من أحد، والثاني مأذون من جهة النبي عليه السلام كما قال تعالى :﴿قُلْ هَـاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى ﴾ (يوسف : ١٠٨) وقال عليه الصلاة والسلام :"رحم الله عبداً سمع مقالتي فأداها كما سمعها" والنبي عليه السلام هو المأذون من الله في الدعاء إليه من غير واسطة.


الصفحة التالية
Icon