المسألة الأولى : إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن هذا إرشاد إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بالذكر ؟
فنقول هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها وبيانه هو أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد، ولهذا قال الله تعالى في حق الممسوسة ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء : ٢١) وإذا أمر الله بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما والقرآن في الحجم صغير ولكن لو استنبطت معانيه لا تفى بها الأقلام ولا تكفي لها الأوراق، وهذا مثل قوله تعالى :﴿فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ (الإسراء : ٢٣) لو قال لا تضربهما أو لا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم، أما إذا قال لا تقل لهما أف علم منه معان كثيرة وكذلك ههنا لما أمر بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعد ومن ولدت عنده منه.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٧٧
وقوله :﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ﴾ التخصيص بالذكر إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة فإنها أشد تحصيناً لدينه، وقوله :﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ يمكن التمسك به في أن تعليق الطلاق بالنكاح، لا يصح لأن التطليق حينئذ لا يكون إلا بعد النكاح والله تعالى ذكره بكلمة ثم، وهي للتراخي وقوله :﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ﴾ بين أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيه من حق الله تعالى، وقوله :﴿تَعْتَدُّونَهَا ﴾ أي تستوفون أنتم عددها ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ قيل بأنه مختص بالمفوضة التي لم يسم لها إذا طلقت قبل المسيس وجب لها المتعة، وقيل بأنه عام وعلى هذا فهو أمر وجوب أو أمر ندب اختلف العلماء فيه/ فمنهم من قال للوجوب فيجب مع نصف المهر المتعة أيضاً، ومنهم من قال للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء، وقوله تعالى :﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا﴾ الجمال في التسريح أن لا يطالبها بما آتاها.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٧٧
١٧٨
ذكر للنبي عليه السلام ما هو الأولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنها لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي عليه السلام معه أشرف ممن لم تهاجر، ومن الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولاً، وذلك لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها والنبي عليه السلام ما كان يستوفي ما لا يجب له، والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه السلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع عن المطلوب والظاهر أن الطالب في المرة الأولى، إنما يكون هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي عليه السلام من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهذا محال ولا كذلك أحدنا، وقال ويؤكد هذا قوله تعالى :﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ﴾ يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها، وقوله تعالى :﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا﴾ إشارة إلى أن هبتها نفسها لا بد معها من قبول وقوله تعالى :﴿خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ قال الشافعي رضي الله عنه معناه إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك، وقال أبو حنيفة تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً، والترجيح يمكن أن يقال بأن على هذا فالتخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له وعلى ما ذكرنا يتبين للتخصيص فائدة وقوله :﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ﴾ معناه أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره وكذلك في السراري. وقوله تعالى :﴿لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ أي تكون في فسحة من الأمر فلا يبقى لك شغل قلب فينزل الروح الأمين بالآيات على قلبك الفارغ وتبلغ رسالات ربك بجدك واجتهادك، وقوله / تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٧٨
١٨٠
ثم قال تعالى :﴿تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـاْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُا وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾.


الصفحة التالية
Icon