لما بين أنه أحل له ما ذكرنا من الأزواج بين أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن حتى يجتمع كيف يشاء ولا يجب عليه القسم، وذلك لأن النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها رق، فكيف زوجات النبي عليه السلام بالنسبة إليه، فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات، والإرجاء التأخير والإيواء الضم ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ يعني إذا طلبت من كنت تركتها فلا جناح عليك في شيء من ذلك ومن قال بأن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة إلى المفهوم من الآية قال المراد :﴿تُرْجِى مَن تَشَآءُ﴾ أي تؤخرهن إذا شئت إذ لا يجب القسم في الأول وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن، وإن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى.
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ أَدْنَى ا أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾.
يعني إذا لم يجب عليك القسم وأنت لا تترك القسم ﴿تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ لتسويتك بينهن ولا يحزن بخلاف ما لو وجب عليك ذلك، فليلة تكون عند إحداهن تقول ما جاءني لهوى قلبه إنما جاءني لأمر الله وإيجابه عليه ﴿وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ﴾ من الإرجاء والإيواء إذ ليس لهن عليك شيء حتى لا يرضين.
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُم وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾.
أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٠
١٨٠
لما لم يوجب الله على نبيه القسم وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله ذكر لهن ما جازاهن به من تحريم غيرهن على النبي عليه السلام ومنعه من طلاقهن بقوله :﴿وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنا بَعْدُ﴾ قال المفسرون من بعدهن والأولى أن يقال لا يحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما يؤتيهن من الوصل والهجران والنقص والحرمان.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ يفيد حرمة طلاقهن إذ لو كان جائزاً لجاز أن يطلق الكل، وبعدهن إما أن يتزوج بغيرهن أولا يتزوج فإن لم يتزوج يدخل في زمرة العزاب والنكاح فضيلة لا يتركها النبي، وكيف وهو يقول :"النكاح سنتي" وإن تزوج بغيرهن يكون قد تبدل بهن وهو ممنوع من التبدل.
المسألة الثالثة : من المفسرين من قال بأن الآية ليس فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهن بل المعنى أن لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك، وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن وقوله :﴿وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ منع من شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زوجة صديقه ويعطيه زوجته، وعلى التفسيرين وقع خلاف في مسألتين إحداهما : حرمة طلاق زوجاته والثانية : حرمة تزوجه بالكتابيات فمن فسر على الأول حرم الطلاق ومن فسر على الثاني حرم التزوج بالكتابيات.
المسألة الرابعة : قوله :﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ أي حسن النساء قال الزمخشري قوله :﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ﴾ في معنى الحال، ولا يجوز أن يكون ذو الحال قوله :﴿مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ لغاية التنكير فيه ولكون ذي الحال لا يحسن أن يكون نكرة فإذن هو النبي عليه السلام، يعني لا يحل لك النساء ولا أن تبدل بهن من أزواج وأنت معجب بحسنهن.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٠
المسألة الخامسة : ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها، وهذه المسألة حكمية وهي أن النبي عليه السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة تشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه وتوسيعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي وبمن على لسانه الوحي نسخ ذلك، إما لقوته عليه السلام للجمع بين الأمرين، وإما أنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوف من أمور الدنيا، فلم يبق له التفات إلى غير الله، فلم يبق له حاجة إلى إحلال التزوج بمن وقع بصره عليها.
المسألة السادسة : اختلف العلماء في أن تحريم النساء عليه هل نسخ أم لا ؟
فقال الشافعي نسخ وقد قالت عائشة ما مات النبي إلا وأحل له النساء، وعلى هذا فالناسخ قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ (الأحزاب : ٥٠) إلى أن قال :﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ﴾ وقال :﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً﴾ على قول من يقول لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد إذ الناسخ غير متواتر إن كان خبراً.


الصفحة التالية
Icon