لما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين، ذكر حال المسر الذي يظهر الحق ويضمر الباطل وهو المنافق، ولما كان المذكور من قبل أقواماً ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة : وهم المؤذون الله، والمؤذون الرسول، والمؤذون المؤمنين، ذكر من المسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة أحدها : المنافق الذي يؤذي الله سراً والثاني : الذي / قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه والثالث : المرجف الذي يؤذي النبي عليه السلام بالإرجاف بقوله غلب محمد وسيخرج من المدينة وسيؤخذ، وهؤلاء وإن كانوا قوماً واحداً إلا أن لهم ثلاث اعتبارات وهذا في مقابلة قوله تعالى :﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ﴾ (الأحزاب : ٣٥) حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد فهم واحد بالشخص كثير بالاعتبار وقوله :﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ أي لنسلطنك عليهم ولنخرجنهم من المدينة، ثم لا يجاوزونك وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج، ويحتمل أن يكون المراد لنغرينك بهم، فإذا أغريناك لا يجاورونك، والأول : كقول القائل يخرج فلان ويقرأ إشارة إلى أمرين والثاني : كقوله يخرج فلان ويدخل السوق ففي الأول يقرأ وإن لم يخرج وفي الثاني لا يدخل إلا إذا خرج. والاستثناء فيه لطيفة وهي أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده إظهاراً لشوكته، ولو كان النفي بإرادة الله من غير واسطة النبي لأخلي المدينة عنهم في ألطف آن (بقوله) كن فيكون، ولكن لما أراد الله أن يكون على يد النبي لا يقع ذلك إلا بزمان وإن لطف فقال :﴿ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلا قَلِيلا﴾ وهو أن يتهيؤا ويتأهبوا للخروج.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٤
١٨٥
أي في ذلك القليل الذي يجاورونك فيه يكونون ملعونين مطرودين من باب الله وبابك وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ بل أينما يكونون يطلبون ويؤخذون ويقتلون.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٥
١٨٥
يعني هذا ليس بدعاً بكم بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾ أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٥
١٨٦
لما بين حالهم في الدنيا أنهم يلعنون ويهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها فقال :﴿يَسْـاَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ﴾ أي عن وقت القيامة ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ﴾ لا يتبين لكم، فإن الله أخفاها لحكمة هي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ إشارة إلى التخويف، وذلك لأن قول القائل الله يعلم متى يكون الأمر الفلاني ينبىء عن إبطاء الأمر، ألا ترى أن من يطالب مديوناً بحقه فإن استمهله شهراً أو شهرين ربما يصبر ذلك، وإن قال له اصبر إلى أن يقدم فلان من سفره يقول الله يعلم متى يجىء فلان، ويمكن أن يكون مجىء فلان قبل انقضاء تلك المدة فقال ههنا :﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ يعني هي في علم الله فلا تستبطئوها فربما تقع عن قريب والقريب فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال تعالى :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ (الأعراف : ٥٦) ولهذا لم يقل لعل الساعة تكون قريبة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٦
١٨٦
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَـافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴾ يعني كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك ملعونون عند الله ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾ كما قال تعالى :﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ (الأحزاب : ٥٧) ﴿خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا﴾ (المائدة : ١١٩) مطيلين المكث فيها مستمرين لا أمد لخروجهم.
وقوله :﴿لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ لما ذكر خلودهم بين تحقيقه وذلك لأن المعذب لا يخلصه من العذاب إلا صديق يشفع له أو ناصر يدفع عنه، ولا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٦
١٨٧


الصفحة التالية
Icon