لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائهم أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة إتقاء بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطىء رأسه كي لا يصيب وجهه، وفي الآخرة ﴿تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ﴾ فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه ووقاية له ﴿يَقُولُونَ يَـالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا﴾ فيتحسرون ويندمون حيث لا تغنيهم الندامة والحسرة، لحصول علمهم بأن الخلاص ليس إلا للمطيع. ثم يقولون :﴿إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا﴾ يعني بدل طاعة الله تعالى أطعنا السادة وبدل طاعة الرسول أطعنا الكبراء وتركنا طاعة سيد السادات وأكبر الأكابر / فبدلنا الخير بالشر، فلا جرم فاتنا خير الجنان وأوتينا شر النيران، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون :﴿رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ أي بسبب ضلالهم وإضلالهم وفي قوله تعالى :﴿ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ معنى لطيف وهو أن الدعاء لا يكون إلا عند عدم حصول الأمر المدعو به والعذاب كان حاصلاً لهم واللعن كذلك فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم :﴿ضِعْفَيْنِ﴾ وزيادة اللعن بقولهم :﴿لَعْنًا كَبِيرًا﴾.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٧
١٨٩
لما بين الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب وكان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه وهو لا يورث كفراً، وذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام وبحكمه بالفيء لبعض وغير ذلك فقال :﴿كَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى ﴾ وحديث إيذاء موسى مختلف فيه، قال بعضهم هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه، وقال بعضنم :(إن) قارون قرر مع امرأة فاحشة حتى تقول عند بني إسرائيل إن موسى زنى بي فلما جمع قارون القوم والمرأة حاضرة ألقى الله في قلبها أنها صدقت ولم تقل ما لقنت وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو أنهم قالوا له :﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا﴾ (المائدة : ٢٤) وقولهم :﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (البقرة : ٥٥) وقولهم :﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ (البقرة : ٦١) إلى غير ذلك فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا :﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا﴾ ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه :"وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم" وقوله :﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ﴾ على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهرون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى عليه السلام عن قتله الذي رموه به، وعلى ما ذكرنا ﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ﴾ أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وبالجملة قطع الله حجتهم ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم، وقوله :﴿وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ أي ذا وجاهة ومعرفة، والوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفاً بالخير، وكل أحد وإن كان عند الله معروفاً لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة، فإن من عرف غيره لكونه خادماً له وأجيراً عنده لا يقال هو وجيه عند فلان، وإنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف ولا ينكر وكان كذلك.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ١٨٩
١٩٠
ثم قال تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأفعال والأقوال، أما الأفعال فالخير، وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله ومن قال الصدق قال قولاً سديداً، ثم وعدهم على الأمرين بأمرين : على الخيرات بإصلاح الأعمال فإن بتقوى الله يصلح العمل والعمل الصالح يرفع ويبقى فيبقى فاعله خالداً في الجنة، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب.


الصفحة التالية
Icon