المسألة الخامسة : أقول قوله تعالى :﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ﴾ (الأنبياء : ٧٩) وقوله :﴿وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً﴾ لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء :﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ﴾ وفي هذه السورة قال :﴿فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه ﴾ (سبأ : ١٠) وقال في الريح هناك وههنا :﴿وَلِسُلَيْمَـانَ﴾ تقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحف، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا :﴿أَوِّبِى مَعَه ﴾ سيري فالجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً، والريح لا تتحرك معه سليمان بل تحرك سليمان مع نفسها، فلم يقل الريح مع سليمان، بل سليمان كان مع الريح ﴿وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ أي النحاس ﴿وَمِنَ الْجِنِّ﴾ أي سخرنا له من الجن، وهذا ينبىء عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر.
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان/ وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه، لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع داود على ما قلنا :﴿أَوِّبِى﴾ أي سيري وسليمان وجنوده مع الريح الثقيل مع الخفيف أيضاً، والطير من جنس تسخير الجن لأنهما / لا يجتمعان مع الإنسان ؛ الطير لنفوره من الإنس والإنس لنفوره من الجن، فإن الإنسان يتقي مواضع الجن، والجن يطلب أبداً اصطياد الإنسان والإنسان يطلب اصطياد الطير فقدر الله أن صار الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه، وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه وأما القطر والحديد فتجاذبهما غير خفي وههنا لطيفة : وهي أن الآدمي ينبغي أن يتقي الجن ويجتنبه والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى :﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون : ٩٧، ٩٨) فكيف طلب سليمان الاجتماع بهم فنقول قوله تعالى :﴿مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه ﴾ إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ولطيفة أخرى : وهي أن الله تعالى قال ههنا :﴿بِإِذْنِ رَبِّه ﴾ بلفظ الرب وقال :﴿وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ ولم يقل عن أمر ربه، وذلك لأن الرب لفظ ينبىء عن الرحمة، فعندما كانت الإشارة إلى حفظ سليمان عليه السلام قال :﴿رَبَّه ﴾ وعندما كانت الإشارة إلى تعذيبهم قال :﴿عَنْ أَمْرِنَا﴾ بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف وقوله تعالى :﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ فيه وجهان أحدهما : أن الملائكة كانوا موكلين بهم وبأيديهم مقارع من نار فالإشارة إليه وثانيهما : أن السعير هو ما يكون في الآخرة فأوعدهم بما في الآخرة من العذاب.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٠
٢٠٠
المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى :﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ والتماثيل ما يكون فيها من النقوش، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال :﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ﴾ جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس ﴿وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ ﴾ ثابتات لا تنقل لكبرها، وإنما يغرف منها في تلك الجفان، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم في الذكر على مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل، فنقول : لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه، وأما القدور فلا تكون فيه، ولا تحضر هناك، ولهذا قال :﴿وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ ﴾ أي غير منقولات، ثم لما بين حال الجفان العظيمة، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان.
المسألة الثانية : ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب، وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة، واستوى داود على الملك، فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده، ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيراً لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام.


الصفحة التالية
Icon