المسألة الثالثة : لما قال عقيب قوله تعالى :﴿أَنِ اعْمَلْ سَـابِغَـاتٍ﴾ اعملوا صالحاً، قال عقيب ما يعمله الجن :﴿اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا ﴾ إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكراً، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء، وقلة الاشتغال بها كما في قوله :﴿وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ ﴾ أي اجعله بقدر الحاجة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٠
المسألة الرابعة : انتصاب شكراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون مفعولاً له كقول القائل جئتك طمعاً وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها : أن يكون مصدراً كقول القائل شكرت الله شكراً ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعوداً، وذلك لأن العمل شكر فقوله :﴿اعْمَلُوا ﴾ يقوم مقام قوله : وثالثها : أن يكون مفعولاً به كقولك اضرب زيداً كما قال تعالى :﴿الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا ﴾ (المؤمنون : ٥١) لأن الشكر صالح.
المسألة الخامسة : قوله :﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده، وذلك لأنه لما قال :﴿اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا ﴾ فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن، لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر، فدائماً تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر، فقال تعالى : إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله :﴿عِبَادِىَ﴾ مع الإضافة إلى نفسه، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين/ كقوله تعالى :﴿قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه ﴾ (الزمر : ٥٣) وقوله :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ﴾ (الإسراء : ٦٥) فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله :﴿قَلِيلٌ﴾ يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه، وقال له : يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٠
٢٠١
لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له بين أنه لم ينج من الموت، وأنه قضى عليه الموت، تنبيهاً للخلق على أن الموت لا بد منه، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كان سليمان عليه السلام يقف في عبادة الله ليلة كاملة ويوماً تاماً وفي بعض الأوقات يزيد عليه، وكان له عصا يتكىء عليها واقفاً بين يدي ربه، ثم في بعض الأوقات كان واقفاً على عادته في عبادته إذ توفي، فظن جنوده أنه في العبادة وبقي كذلك أياماً وتمادى شهوراً، ثم أراد الله إظهار الأمر لهم، فقدر أن أكلت دابة الأرض عصاه فوقع وعلم حاله.
وقوله تعالى :﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ كانت الجن تعلم ما لا يعلمه الإنسان فظن أن ذلك القدر علم الغيب وليس كذلك، بل الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلاً فهو أكثر الأشياء الحاضرة لا يعلمه، والجن لم تعلم إلا الأشياء الظاهرة وإن كانت خفية بالنسبة إلى الإنسان، وتبين لهم الأمر بأنهم لا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حي. وقوله :﴿مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠١
٢٠٢
ثم قال تعالى :﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌا جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍا كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَه ا بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ﴾.


الصفحة التالية
Icon