لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم لن نؤمن فإنه لتأييد النفي وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول كما يكون عليه حال جماعة أخطؤا في أمر يقول بعضهم كان ذلك بسببك ويرد عليه الآخر مثل ذلك، وجواب لو محذوف، تقديره : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون لرأيت عجباً، ثم بدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ فقال :﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ إشارة إلى أن / كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ما جاءنا رسول، ولا أن يقولوا قصر الرسول، وهذا إشارة إلى إتيان الرسول بما عليه لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٩
٢٠٩
ثم قال تعالى :﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ﴾.
رداً لما قالوا إن كفرنا كان لمانع ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ﴾ يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضى حتى يعمل عمله، والذي جاء به هو الهدى، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصح تعليلكم بالمانع، ثم بين أن كفرهم كان إجراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضى أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٩
٢٠٩
ثم قال تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَه ا أَندَادًا ﴾.
لما ذكر المستكبرون أنا ما صددناكم وما صدر منا يصلح مانعاً وصارفاً اعترف المستضعفون به وقالوا :﴿بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ منعنا، ثم قالوا لهم إنكم إن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد والامتداد في المدد فكفرنا فكان قولكم جزء السبب، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد بل مكركم بالليل والنهار فحذف المضاف إليه. وقوله :﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ﴾ أي ننكره ﴿وَنَجْعَلَ لَه ا أَندَادًا ﴾ هذا يبين أن المشرك بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه المخلوق المنحوت لا يكون إلهاً، وقوله في الأول :﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾ يقول الذين استضعفوا بلفظ المستقبل، وقوله في الآيتين المتأخرتين ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ﴾ بصيغة الماضي مع أن السؤال والتراجع في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بد وأن يقع، فإن الأمر الواجب الوقوع يوجد كأنه وقع، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ (الزمر : ٣٠).
ثم قال تعالى :﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
معناه أنهم يتراجعون القول في الأول، ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة، وقيل معنى الإسرار الإظهار أي أظهروا الندامة، ويحتمل أن يقال بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم :﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا﴾ (السجدة : ١٢) ثم أجيبوا وأخبروا بأن لا مرد لكم فأسروا ذلك القول، وقوله :﴿وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (سبأ : ٣٣) إشارة إلى كيفية العذاب وإلى أن مجرد الرؤية ليس كافياً بل لما رأوا العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا الندم ووقعوا فيه فجعل الأغلال في أعناقهم، وقوله :﴿يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ إشارة إلى أن ذلك حقهم عدلاً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٠٩
٢١٠


الصفحة التالية
Icon