تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلّم وبياناً لأن إيذاء الكفار الأنبياء الأخيار ليس بدعاً، بل ذلك عادة جرت من قبل وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا :﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ﴾ لأن الأغنياء المترفين هم الأصل في ذلك القول، ألا ترى أن الله قال عن الذين استضعفوا إنهم قالوا للمستكبرين لولا أنتم لكانوا مؤمنين، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا :﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا﴾ أي بسبب لزومنا لديننا، وقوله :﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ أي في الآخرة كأنهم قالوا حالنا عاجلاً خير من حالكم، وأما آجلاً فلا نعذب إما إنكاراً منهم للعذاب رأساً أو اعتقاداً لحسن حالهم في الآخرة أيضاً قياساً (على حسن حالهم في الدنيا).
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٠
٢١٠
ثم إن الله تعالى بين خطأهم بقوله :﴿قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
يعني أن الرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومعسر تقي ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ أي أن قلة الرزق وضنك العيش وكثرة المال وخصب العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٠
٢١١
ثم بين فساد استدلالهم بقولهم :﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ا إِلا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَ أولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا ﴾.
يعني قولكم نحن أكثر أموالاً فنحن أحسن عند الله حالاً ليس استدلالاً صحيحاً، فإن المال لا يقرب إلى الله ولا اعتبار بالتعزز به، وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان والذي يدل عليه هو أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل، وقوله :﴿فَ أولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ﴾ أي الحسنة فإن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل.
ثم زاد وقال :﴿وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ﴾ إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده، فإن من تنقطع عنه النعمة لا يكون آمناً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١١
٢١٢
ثم بين حال المسىء بقوله :﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـاتِنَا مُعَـاجِزِينَ أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾.
وقد ذكرنا تفسيره، وقوله :﴿ أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ إشارة إلى الدوام أيضاً كما قال تعالى :﴿كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ (السجدة : ٢٠) وكما قال تعالى :﴿وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ﴾ (الإنفطار : ١٦).
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٢
٢١٣
ثم قال تعالى مرة أخرى :﴿قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ لَه ا وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه ا وَهُوَ خَيْرُ﴾ (الجمعة : ١١) إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا، بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى بناءً على الوعد، قطعاً لقول من يقول : إذا كانت العاجلة لنا والآجلة لهم فالنقد أولى، فقال هذا النقد غير مختص بكم / فإن كثيراً من الأشقياء مدقعون، وكثير من الأتقياء ممتعون وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر هذا المعنى مرتين : مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالة على حسن أحوالهم واعتقادهم، ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود الترف لا يدل على الشرف، ثم إن سلمنا أنه كذلك لكن المؤمنين سيحصل لهم ذلك، فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم، والذي يدل عليه هو أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده، بل قال لمن يشاء، وثانياً قال لمن يشاء من عباده، والعباد المضافة يراد بها المؤمن، ثم وعد المؤمن بخلاف ما للكافر، فإن الكافر دابره مقطوع، وماله إلى الزوال، ومآله إلى الوبال. وأما المؤمن فما ينفقه يخلفه الله، ومخلف الله خير، فإن ما في يد الإنسان في معرض البوار والتلف وهما لا يتطرقان إلى ما عند الله من الخلف، ثم أكد ذلك بقوله :﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وخيرية الرازق في أمور أحدها : أن لا يؤخر عن وقت الحاجة والثاني : أن لا ينقص عن قدر الحاجة والثالث : أن لا ينكده بالحساب والرابع : أن لا يكدره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.


الصفحة التالية
Icon