لما ذكر الله أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال، ذكر أن ذلك الحق قد جاء وفيه وجوه أحدها : أنه القرآن الثاني : أنه بيان التوحيد والحشر وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلّم الثالث : المعجزات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يكون المراد من ﴿جَآءَ الْحَقُّ﴾ ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر والباطل خلاف الحق، وقد بينا أن الحق هو الموجود، ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم لم يمكن انتفاؤه كالتوحيد والرسالة والحشر، كان حقاً لا ينتفي، ولما كان ما يأتون به من الإشراك والتكذيب لا يمكن وجوده كان باطلاً لا يثبت، وهذا المعنى يفهم من قوله :﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ﴾ أي الباطل لا يفيد شيئاً في الأولى ولا في الآخرة فلا إمكان لوجوده أصلاً، والحق المأتي به لا عدم له أصلاً، وقيل المراد لا يبدىء الشيطان ولا يعيد، وفيه معنى لطيف وهو أن قوله تعالى :﴿قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ﴾ لما كان فيه معنى قوله تعالى :﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه ﴾ كان يقع لمتوهم أن الباطل كان فورد عليه الحق / فأبطله ودمغه، فقال ههنا ليس للباطل تحقق أولاً وآخراً، وإنما المراد من قوله :﴿فَيَدْمَغُه ﴾ أي فيظهر بطلانه الذي لم يزل كذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى في موضع آخر :﴿وَزَهَقَ الْبَـاطِلُا إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء : ٨١) يعني ليس أمراً متجدداً زهوق الباطل، فقوله :﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ﴾ أي لا يثبت في الأول شيئاً خلاف الحق ﴿وَمَا يُعِيدُ﴾ أي لا يعيد في الآخرة شيئاً خلاف الحق.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٧
٢١٧
هذا فيه تقرير الرسالة أيضاً وذلك لأن الله تعالى قال على سبيل العموم :﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِه ﴾ (الزمر : ٤١) وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلّم :﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى ﴾ يعني ضلالي على نفسي كضلالكم، وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم، وإنما هو بالوحي المبين، وقوله :﴿إِنَّه سَمِيعٌ﴾ أي يسمع إذا ناديته واستعديت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير، ليس يسمع عن بعد ولا يلحق الداعي.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٧
٢١٨
لما قال :﴿سَمِيعُ﴾ قال هو قريب فإن لم يعذب عاجلاً ولا يعين صاحب الحق في الحال فيوم الفزع آت لا فوت، وإنما يستعجل من يخاف الفوت. وقوله :﴿وَلَوْ تَرَى ﴾ جوابه محذوف أي ترى عجباً ﴿وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢١٨
٢٢١
أي بعد ظهور الأمر حيث لا ينفع إيمان، قالوا آمنا ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ أي كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة، فإن قيل فكيف قال كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة، ولهذا سماها الله الساعة وقال :﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى : ١٧) نقول الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت، فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه والتناوش هو التناول عن قرب. وقيل عن بعد، ولما جعل الله الفعل مأخوذاً كالجسم جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال :﴿مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ والمراد ما مضى من الدنيا.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢١
٢٢١


الصفحة التالية
Icon