لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر، وقال ما يفتح الله للناس، يعني إن رحم فلا مانع له، وإن لم يرحم فلا باعث له عليها، وفي الآية دليل على سبق رحمته غضبه من وجوه : التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر، وهو وإن كان ضعيفاً لكنه وجه من وجوه الفضل وثانيها : هو أن أنث الكناية في الأول فقال :﴿قَدِيرٌ * مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ﴾ وجاز من حيث العربية أن يقال له ويكون عائداً إلى ما، ولكن قال تعالى :﴿لَهَا ﴾ ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة ولا ممسك لرحمته فهي وصلة إلى رحمته، وقال عند الإمساك ﴿وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه ﴾ بالتذكير ولم يقل لهما فما صرح بأنه لا مرسل للرحمة، بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي لا يرسل هو غير الرحمة فإن قوله تعالى :﴿وَمَا يُمْسِكْ﴾ عام من غير بيان وتخصيص بخلاف قوله تعالى :﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾ فإنه مخصص مبين وثالثها : قوله :﴿مِّنا بَعْدِه ﴾ أي من بعد الله، فاستثنى ههنا وقال لا مرسل له إلا الله فنزل له مرسلاً. وعند الإمساك / الإمساك قال لا ممسك لخا، ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمه الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره، ومن يعذبه الله فقد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.
ثم قال تعالى :﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أي كامل القدرة ﴿الْحَكِيمُ﴾ أي كامل العلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٣
٢٢٤
ثم قال تعالى :﴿اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ﴾ لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تستوجب الحمد على سبيل التفصيل بين نعمه على سبيل الإجمال فقال :﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ وهي مع كثرتها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء.
فقال تعالى :﴿هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء.
وقال تعالى :﴿يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ ﴾ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء.
ثم بين أنه ﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ ﴾ نظراً إلى عظمته حيث هو عزيز حكيم قادر على كل شيء قدير نافذ الإرادة في كل شيء ولا مثل لهذا ولا معبود لذاته غير هذا ونظراً إلى نعمته حيث لا خالق غيره ولا رازق إلا هو.
ثم قال تعالى :﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر، فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٤
٢٢٤
ثم لما بين الأصل الأول : وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني : وهو الرسالة فقال تعالى :﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾.
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب. والمكذب له الثواب بقوله تعالى :﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ﴾ ثم بين الأصل الثالث : وهو الحشر.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٤
٢٢٤
فقال تعالى :﴿الامُورُ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ / أي الشيطان وقد ذكرنا ما فيه من المعنى اللطيف في تفسير سورة لقمان ونعيده ههنا فنقول المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي فيغتر بأدنى شيء، وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به ولكن إذا جاءه غار ورزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه، وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال الله تعالى :﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا ﴾ إشارة إلى الدرجة الأولى، وقال :﴿وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ إشارة إلى الثانية ليكون واقعاً في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ لما قال تعالى :﴿وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار، وقال :﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ ولا تسمعوا قوله، وقوله :﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ﴾ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان : أحدهما : أن يعاديه مجازاة له على معاداته والثاني : أن يذهب عداوته بإرضائه، فلما قال الله تعالى :﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا، وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا راضيتموه واتبعتموه فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٤