واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف عنده يصبر على قتاله والصبر معه الظفر، فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه، ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه، فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان، فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة.
ثم بين الله تعالى حال حزبه وحال حزب الله. فقال :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٤
٢٢٥
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ فالمعادي للشيطان وإن كان في الحال في عذاب ظاهر وليس بشديد، والإنسان إذا كان عاقلاً يختار العذاب المنقطع اليسير دفعاً للعذاب الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذ عرض في طريقه شوك ونار ولا يكون له بد من أحدهما يتخطى الشوزك ولا يدخل النار ونسبة النار التي في الدنيا إلى النار التي في الآخرة دون نسبة الشوك إلى النار العاجلة.
وقال تعالى :﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ قد ذكر تفسيره مراراً، / وبين فيه أن الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤيده مؤمن في النار، والعمل الصالح في مقابلته الأجر الكبير.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٥
٢٢٧
ثم قال تعالى :﴿زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾.
يعني ليس من عمل سيئاً كالذي عمل صالحاً، كما قال بعد هذا بآيات وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، وله تعلق بما قبله وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسيء الكافر والمحسن المؤمن، وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئاً إلا قليل، فكان الكافر يقول الذي له العذاب الشديد هو الذي يتبع الشيطان وهو محمد وقومه الذين استهوتهم الجن افتبعوها، والذي له الأجر العظيم نحن الذين دمنا على ما كان عليه آباؤنا فقال الله تعالى لستم أنتم بذلك فإن المحسن غير، ومن زين له العمل السيء فرآه حسناً غير، بل الذين زين لهم السيء دون من أساء وعلم أنه مسيء فإن الجاهل الذي يعلم جهله والمسيء الذي يعمل سوء عمله يرجع ويتوب والذي لا يعلم يصر على الذنوب والمسيء العالم له صفة ذم بالإساءة وصفة مدح بالعلم. والمسيء الذي يرى الإساءة إحساناً له صفتا ذم الإساءة والجهل، ثم بين أن الكل بمشيئة الله، وقال :﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ وذلك لأن الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان، والسيئة والحسنة يمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون باستقلال منهم، فلا بد من الاستناد إلى إرادة الله.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث حزن من إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة باهرة فقال :﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ كما قال تعالى :﴿فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ﴾.
ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد إيمانهم وإحسانم لصدهم عن الضلال وردهم عن الإضلال، وإن كان لما به منهم من الإيذاء فالله عالم بفعله بجازيهم على ما يصنعون.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٢٧
٢٢٧
ثم عاد إلى البيان فقال تعالى :﴿وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾.
هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار وذلك لأن الهواء قد يسكن، وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى اليسار، وفي حركاته المخعلفة قد ينشىء السحاب، وقد لا ينشيء، فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر ومؤثر مقدر، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى :﴿وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ﴾ بلفظ الماضي وقال :﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ بصيغة المستقبل، وذلك لأن لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعل الله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزأً من الزمان، فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان وكأن فرغ من كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال، ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهو يؤلف في زمان فقال :﴿تُثِيرُ﴾ أي على هيئتها.


الصفحة التالية
Icon