الأول : تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا :﴿اللَّهَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ﴾ وقول القائل : زيد بني الجدار فإن الله موجود قبل كل شيء، ثم له فعل هو الخلق، ثم حصل به المفعول وهو السموات، وكذلك زيد قبل البناء ثم الجدار من بنائه، وإذا لم يكن المفعول حقيقياً كقولنا زيد دخل الدار وضرب عمراً فإن الدار في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعل من أفعال تحقق بالنسبة إلى الدار، وكذلك عمرو فعل من أفعال زيد تعلق به فسمى مفعولاً لا يحصل هذا الترتيب، ولكن الأصل تقديم الفاعل على المفعول ولهذا يعاد المفعول المقدم بالضمير تقول عمراً ضربه زيد فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة، فما الفائدة في تقديم الجنات على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكر بالهاء في يدخلونها، وما الفرق بين هذا وبين قول القائل يدخلونها جنات عدن ؟
نقول السامع إذا علم أن له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم عين المدخل فإذا قيل له أنت تدخل فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون، فإذا قيل له دار زيد تدخلها فبذكر الدار، يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق إن له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى له توقف ولا سيما الجنة والنار، فإن بني المدخلين بوناً بعيداً الثاني : قوله :﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير الدخول فقال :﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ وفيها تقع تحليتهم الثالث : قوله :﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٢
بجمع الجمع فإنه جمع أسورة وهي جمع سوار، وقوله :﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس / يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل إلا على الغنى الرابع : ذكر الأساور من بين سائر الحلي في كثير من المواضع منها قوله تعالى :﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ وذلك لأن التحلي بمعنيين أحدهما : إظهار كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال لأن التحلي لا يكون حالة الطبخ والغسل وثانيهما : إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء وذلك لأن التحلي إما باللآلىء والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المتحلي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكبيرة عند الحاجة حيث يعجز عن الوصول إلى الأشياء القليلة الوجود لا لحاجة، والتحلي بالذهب والفضلة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع الحاجة، إذا عرفت هذا فنقول الأساور محلها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإنها للبطش، فإذا حليت بالأساور علم الفراغ والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحلي.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٢
٢٤٢
ثم قال تعالى :﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
في الحزن أقوال كثيرة والأولى أن يقال المراد إذهاب كل حزن والألف واللام للجنس واستغراقه وإذهاب الحزن بحصول كل ما ينبغي وبقائه دائماً فإن شيئاً منه لو لم يحصل لكان الحزن موجوداً بسببه وإن حصل ولم يدم لكان الحزن غير ذاهب بعد بسبب زواله وخوف فواته، وقوله :﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ذكر الله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة من الله الأول : الحمد فإن الحامد مثاب الثاني : قولهم ربنا فإن الله لم يناد بهذا اللفظ إلا واستجاب لهم، اللهم إلا أن يكون المنادي قد ضيع الوقت الواجب أو طلب ما لا يجوز كالرد إلى الدنيا من الآخرة الثالث : قولهم :﴿غَفُورٌ﴾، الرابع : قولهم :﴿شَكُورٌ﴾ والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بما وجد لهم من الحمد في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم ويزيد لهم بسبب ما وجد لهم في الآخرة من الحمد.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٢
٢٤٣
ثم قال تعالى :﴿الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه ﴾ أي دار الإقامة، لما ذكر الله سرورهم وكرامتهم بتحليتهم وإدخالهم الجنات بين سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها حيث قالوا :﴿الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ أي الإقامة والمفعول ربما يجيء للمصدر من كل باب يقال ما له معقول أي عقل، وقال تعالى :﴿مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ وقال تعالى :﴿وَمَزَّقْنَـاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ وكذلك مستخرج للاستخراج وذلك لأن المصدر هو المفعول في الحقيقة، فإنه هو الذي فعل فجاز إقامة المفعول مقامه وفي قوله :﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومنها إلى منزلة / العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق. وقد تكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار المقامة، وكذلك النار لأهلها وقولهم ﴿مِّن فَضْلِه ﴾ أي بحكم وعده لا بإيجاب من عنده.


الصفحة التالية
Icon