وقوله تعالى :﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ اللغوب الإعياء والنصب هو السبب للإعياء فإن قال قائل إذا بين أنه ﴿لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ علم أنه ﴿وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ ولا ينفي المتكلم الحكيم السبب، ثم ينفي مسببه بحرف العطف فلا يقول القائل لا أكلت ولا شبعت أو لا قمت ولا مشيث والعكس كثير فإنه يقال لا شبعت ولا أكلت لما أن نفي الشبع لا يلزمه إنتفاء الأكل وسياق ما تقرر أن يقال لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة، فنقول ما قاله الله في غاية الجلالة وكلام الله أجل وبيانه أجمل، ووجه هو أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن الدنيا أماكنها على قسمين : أحدهما : موضع نمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري والطرقات والأراضي والآخر : موضع يظهر فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار من الخانات فإن من يكون في مباشرة شغل لا يظهر عليه الإعياء إلا بعدما يستريح فقال تعالى :﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ أي ليست الجنة كالمواضع التي في الدنيا مظان المتاعب بل هي أفضل من المواضع التي هي مواضع مرجع العي، فقال :﴿وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ أي، لا نخرج منها إلى مواضع نتعب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وقرىء ﴿لُغُوبٌ﴾ بفتح اللام والترتيب على هذه القراءة ظاهر كأنه قال لا نتعب ولا يمسنا ما يصلح لذلك، وهذا لأن القوي السوي إذا قال ما تعبت اليوم لا يفهم من كلامه أنه ما عمل شيئاً لجواز أنه عمل عملاً لم يكن بالنسبة إليه متعباً لوقته، فإذا قال ما مسني ما يصلح أن يكون متبعاً يفهم أنه لم يعمل شيئاً لأن نفس العمل قد يصلح أن يكون متعباً لضعيف أو متعباً بسبب كثرته، واللغوب هو ما يغلب منه وقيل النصب التعب الممرض، وعلى هذا فحسن الترتيب ظاهر كأنه قال لا يمسنا مرض ولا دون ذلك وهو الذي يعيا منه مباشرة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٣
٢٤٤
ثم قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ عطف على قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ﴾ وما بينهما كلام يتعلق بالذين يتلون كتاب الله على ما بينا وقوله :﴿جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ قد ذكرنا أنه على بعض الأقوال راجع إلى ﴿الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ﴾.
ثم قال تعالى :﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ﴾ أي لا يستريحون بالموت بل العذاب دائم.
وقوله تعالى :﴿وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ﴾ أي النار وفيه لطائف :/ الأولى : أن العذاب في الدنيا إن دام كثيراً يقتل فإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجاً فاسداً متمكناً لا يحس به المعذب، فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا، إما أن يفني وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم الثانية : راعي الترتيب على أحسن وجه وذلك لأن الترتيب أن لا ينقطع العذاب، ولا يفتر فقال لا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنون الموت ولا يجابون كما قال تعالى :﴿وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ أي بالموت الثالثة : في المعذبين اكتفى بأنه لا ينقص عذابهم، ولم يقل نزيدهم عذاباً. وفي المثابين ذكر الزيادة بقوله :﴿وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه ﴾ ثم لما بين أن عذابهم لا يخفف.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٤
٢٤٤
قال تعالى :﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاماً إلى أن يطلبوه بل يطلبون ولا يجدون والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب.
وقوله تعالى :﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا﴾ أي صراخهم بهذا أي يقولون :﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا﴾ لأن صراخهم كلام وفيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه : لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما فعلت يتركه، وأما المعذب فلا وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم بين أنه لا يقبل منهم وعداً وهذا لأن المحبوس يصير لعله يخرج من غير سؤال فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا.
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالاً فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى :﴿وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الآخِرَةِ أَعْمَى ﴾ ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار.
وعلى هذا قالوا :﴿نَعْمَلْ صَـالِحًا﴾ جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فهي، ولم يقولوا إن الأمر بيد الله، فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقداراً يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال.


الصفحة التالية
Icon