تقريراً لقطع حجتهم فإنهم لما قالوا :﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا﴾ وقال تعالى :﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ﴾ إشارة إلى أن التمكين والإمهال مدة يمكن فيها المعرفة قد حصل وما آمنتم وزاد عليه بقوله :﴿وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ أي آتيناكم عقولاً، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول زاد على ذلك بقوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـا اـاِفَ فِى الارْضِ ﴾ أي نبهكم بمن مضى وحال من انقضى فإنكم لو لم يحصل لكم علم بأن من كذب الرسل أهلك لكان عنادكم أخفى وفسادكم أخف، لكن أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلائف في الأرض، أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وتصبحون بحالهم راضين ﴿فَمَن كَفَرَ﴾ بعد هذا كله ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُه ا وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا ﴾ لأن الكافر السابق كان ممقوتاً كالعبد الذي لا يخدم سيده واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت كالعبد الذي ينصحه الناصح ويأمره بخدمة سيده ويعده ويوعده ولا ينفعه النصح ولا يسعده والتالي لهم الذي رأى عذاب من تقدم ولم يخش عذابه أمقت الكل.
ثم قال تعالى :﴿وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا﴾ أي الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيد إلا المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسارة، فإن العمر كالرأس مال من اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٦
٢٤٨
ثم قال تعالى :﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾.
تقريراً للتوحيد وإبطالاً للإشراك، وقوله :﴿أَرَءَيْتُمْ﴾ المراد منه أخبروني، لأن الاستفهام يستدعي جواباً، يقول القائل أرأيت ماذا فعل زيد ؟
فيقول السامع باع أو اشترى، ولولا تضمنه معنى أخبرني وإلا لما كان الجواب إلا قوله لا أو نعم، وقوله :﴿شُرَكَآءَكُمُ﴾ إنما أضاف الشركاء إليهم من حيث إن الإصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال شركاءكم، أي الشركاء يجعلكم ويحتمل أن يقال شركاءكم، أي شركاءكم في النار لقوله :﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ وهو قريب، ويحتمل أن يقال هو بعيد لاتفاق المفسرين على الأول وقوله :﴿أَرُونِى﴾ بدل عن ﴿أَرَءَيْتُمْ﴾ لأن كليهما يفيد معنى أخبروني، ويحتمل أن يقال قوله :﴿أَرَءَيْتُمْ﴾ استفهام حقيقي و﴿أَرُونِى﴾ أمر تعجيز للتبين، فلما قال :﴿أَرَءَيْتُمْ﴾ يعني أعلمتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة، فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها ؟
وإن كان وقع لكم أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء هي، أهي في الأرض، كما قال بعضهم : إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض، وهم الذين قالوا أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها ؟
أم هي في السموات، كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة والملائكة شركاء في خلق السموات، وهذه الأصنام صورها ؟
أم قدرتها في الشفاعة لكم، كما قال بعضهم إن الملائكة ما خلقوا شيئاً ولكنهم مقربون عند الله فنعبدها ليشفعوا لنا، فهل معهم كتاب من الله فيه إذنه لهم بالشفاعة ؟
وقوله :﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ﴾ في العائد إليه الضمير وجهان أحدهما : أنه عائد إلى الشركاء، أي هل أتينا الشركاء كتاباً وثانيهما : أنه عائد إلى المشركين، أي هل آتينا المشركين كتاباً وعلى الأول فمعناه ما ذكرنا، أي هل مع ما جعل شريكاً كتاب من الله فيه أن له شفاعة عند الله، فإن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، وعلى الثاني معناه أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا في السماء شيئاً من الأشياء، وإما بالنقل ونحن ما آتينا المشركين كتاباً فيه أمرنا بالسجود لهؤلاء ولو أمرنا لجاز كما أمرنا بالسجود لآدم وإلى جهة الكعبة، فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية فوعد بعضهم بعضاً ليس إلا غروراً غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٤٨
٢٤٨


الصفحة التالية
Icon