واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَ أولئك هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ وفي ذلك دقيقة عجيبة، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث، ولا بد له من فاعل وقابل. أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه ﴾ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله :﴿وَ أولئك هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه. وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سبباً لرجحان أحد الطرفين، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية/ امتنع أن تصير ذات الجسم سبباً لرجحان أحد الطرفين على الآخر، فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين، فتصير تلك الإرادة سبباً لذلك الرجحان، فنقول هذا باطل، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة، فيمتنع كون جوهر النفس سبباً لتلك الإرادة، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل : فيمتنع أن يكون هو النفس، بل الفاعل هو الله تعالى وأما القابل : فهو جوهر النفس، فلهذا السبب قال :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَ أولئك هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ ثم قال :﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦١
٢٦١
في بعثة الأثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى والإتيان بما أمر الله، والله عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده، وأما عيسى فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة.
وقوله :﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ أي قوينا وقرىء فعززنا بثالث مخففاً، من عز إذا غلب فكأنه قال فغلبنا نحن وقهرنا بثالث والأول أظهر وأشهر وترك المفعول حيث لم يقل فعززناهما لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : النبي صلى الله عليه وسلّم بعث رسله إلى الأطراف واكتفى بواح دوعسى عليه السلام بعث اثنين، نقول النبي بعث لتقرير الفروع وهو دون الأصل فاكتفى بواحد فإن خبر الواحد في الفروع مقبول، وأما هما فبعثنا بالأصول وجعل لهما معجزة تفيد اليقين وإلا لما كفى إرسال اثنين أيضاً ولا ثلاثة.
المسألة الثانية : قال الله تعالى لموسى عليه السلام ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ﴾ (القصص : ٣٥) فذكر المفعول هناك ولم يذكره ههنا مع أن المقصود هناك أيضاً نصرة الحق، نقول موسى عليه السلام كان أفضل من هارون/ وهارون بعث معه بطلبه حيث قال :﴿فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ﴾ (القصص : ٣٤) فكان هارون معبوثاً ليصدق موسى فيما يقول ويقوم بما يأمره، وأما هما فكل واحد مستقل ناطق بالحق فكان هناك المقصود تقوية موسى وإرسال من يؤنس معه وهو هارون، وأما ههنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٦١
٢٦١


الصفحة التالية
Icon