المسألة الخامسة : خصص النخيل والأعناب بالذكر من سائر الفواكه لأن ألذ المطعوم الحلاوة، وهي فيها أتم ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة، ولا كذلك غيرهما ولأنهما أعم نفعاً فإنها تحمل من البلاد إلى الأماكن البعيدة، فإن قيل فقد ذكر الله الرمان والزيتون في الأنعام والقضب والزيتون والتين في مواضع، نقول في الأنعام وغيرها المقصود ذكر الفواكه والثمار ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه ﴾ (الأنعام : ٩٩) وإلى قوله :﴿فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِه ﴾ (عبس : ٢٤) فاستوفى الأنواع بالذكر وههنا المقصود ذكر صفات الأرض فاختار منها الألذ الأنفع، وقد ذكرنا في سورة الأنعام ما يستفاد منه الفوائد ويعلم منه فائدة قوله تعالى :﴿فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ (الرحمن : ٦٨).
المسألة السادسة : في المواضع التي ذكر الله الفواكه لم يذكر التمر بلفظ شجرته وهي النخلة ولم يذكر العنب بلفظ شجرته بل ذكره بلفظ العنب والأعناب، ولم يذكر الكرم وذلك لأن العنب شجرته بالنسبة إلى ثمرته حقيرة قليلة الفائدة والنخل بالنسبة إلى ثمرته عظيمة جليلة القدر كثيرة الجدوى، فإن كثيراً من الظروف منها يتخذ وبلحائها ينتفع ولها شبه بالحيوان فاختار منها ما هو الأعجب منها، وقوله تعالى :﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ آية عظيمة لأن الأرض أجزاؤها بحكم العادة لا تصعد ونحن نرى منابع الأنهار والعيون في المواضع المرتفعة وذلك دليل القدرة والاختيار والقائلون بالطبائع قالوا إن الجبال كالقباب المبنية والأبخرة ترتفع إليها كما ترتفع إلى سقوف الحمامات وتتكون هناك قطرات من الماء ثم تجتمع، فإن لم تكن قوية تحصل المياه الراكدة كالآبار وتجري في القنوات، إن كانت قوية تشق الأرض وتخرج أنهاراً جارية وتجتمع فتحصل الأنهار العظيمة وتمدها مياه الأمطار والثلوج، فنقول اختصاص بعض الجبال بالعيون دليل ظاهر على الاختيار وما ذكروه تعسف، فالحق هو أن الله تعالى خلق الماء في المواضع المرتفعة وساقها في الأنهار والسواقي أو صعد الماء من المواضع المتسفلة إلى الأماكن المرتفعة بأمر الله وجرى في الأودية إلى البقاع التي أنعم الله على أهلها.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٢٧٦
ثم قال تعالى :﴿لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ والترتيب ظاهر ويظهر أيضاً في التفسير وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لم أخر التنبيه على الانتفاع بقوله :﴿لِيَأْكُلُوا ﴾ عن ذكر الثمار حتى قال :﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ وقال في الحب :﴿فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ عقيب ذكر الحب، ولم يقل عقيب ذكر النخيل والأعناب ليأكلوا ؟
نقول الحب قوت وهو يتم وجوده بمياه الأمطار ولهذا يرى أكثر البلاد لا يكون بها شيء من الأشجار والزرع والحراثة لا تبطل هناك اعتماداً على ماء السماء وهذا لطف من الله حيث جعل ما يحتاج إليه الإنسان أعم وجوداً، وأما الثمار فلا تتم إلا بالأنهار ولا تصير الأشجار حاملة للثمار إلا بعد وجود الأنهار فلهذا أخر.
المسألة الثانية : الضمير في قوله :﴿مِن ثَمَرِه ﴾ عائد إلى أي شيء ؟
نقول المشهور أنه عائد إلى الله أي/ليأكلوا من ثمر الله وفيه لطيفة : وهي أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لم توجد إلا بالله تعالى ولولا خلق الله ذلك لم توجد فالثمر بعد جميع ما يظن الظان أنه سبب وجوده ليس إلا بالله تعالى وإرادته فهي ثمره، ويحتمل أن يعود إلى النخيل وترك الأعناب لحصول العلم بأنها في حكم النخيل ويحتمل أن يقال هو راجع إلى المذكور أي من ثمر ما ذكرنا، وهذان الوجهان نقلهما الزمخشري، ويحتمل وجهاً آخر أغرب وأقرب وهو أن يقال المراد من الثمر الفوائد يقال ثمرة التجارة الربح ويقال ثمرة العبادة الثواب، وحينئذٍ يكون الضمير عائداً إلى التفجير المدلول عليه بقوله :﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ تفجيراً ليأكلوا من فوائد ذلك التفجير وفوائده أثكر من الثمار بل يدخل فيه ما قال الله تعالى :﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا﴾ (عبس : ٢٥) إلى أن قال :﴿فَأَنابَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَآاـاِقَ غُلْبًا * وَفَـاكِهَةً وَأَبًّا﴾ (عبس : ٢٧ ــــ ٣١) والتفجير أقرب في الذكر من النخيل، ولو كان عائداً إلى الله لقال من ثمرنا كما قال (وجعلنا) (وفجرنا).


الصفحة التالية
Icon