السؤال الرابع : الشيطان مخلوق من النار، قال تعالى حكاية عن إبليس ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ (الأعراف : ١٢) وقال :﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر ؛ ٢٧) ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات، وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟
والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة، فإن وصلت نيران الشهب إليهم، وتلك النيران أقوى حالاً منهم لا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفىء فكذلك ههنا.
السؤال الخامس : أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك، والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من السطح الأسفل من الفلك، فيبقى جرم الفلك مانعاً من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة، ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم، كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة، فإن قلتم إن الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة، فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة، وجب أن لا ينفي سمع الشيطان، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم ؟
فالجواب : مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير مللة، فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب، وإذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك، وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب، والله أعلم.
وأما قوله :﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الاعْلَى ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿لا يَسَّمَّعُونَ﴾ بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون، فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس، والتسمع تطلب السماع يقال تسمع سمع أو لم يسمع، والباقون بتخفيف السين، واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون، قال : لأن العرب تقول تسمعت إلى فلان ويقولون سمعت فلاناً، ولا يكادون يقولون سمعت إلى فلان، وقيل في تقوية هذه القراءة إذا نفى التسمع، فقد نفى سمعه، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى :﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ (الشعراء : ٢١٢) وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى/ ثم يمنعون فلا يسمعون، وللأولين أن يجيبوا فيقولون التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية، بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء، فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعاً من السمع أولى.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٢٤
المسألة الثانية : الفرق بين قولك سمعت حديث فلان، وبين قولك سمعت إلى حديثه، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك.
المسألة الثالثة : في قوله :﴿لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا﴾ قولان الأول : وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال :﴿الانثَيَيْنِا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾ (النساء : ١٧٦) وكما قال :﴿رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ (لقمان : ١٠) قال صاحب "الكشاف" : حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده. أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صوت القرآن عنها والقول الثاني : وهو الذي اختاره صاحب "الكشاف" أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب، مدحورون عن ذلك المقصود.
المسألة الرابعة : الملأ الأعلى لملائكة لأنهم يسكنون السموات. وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة الأولى : أنهم لا يسمعون الثانية : أنهم يقذفون من كل جانب دحوراً وفيه أبحاث :
الأول : قد ذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف عند قوله :﴿اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ﴾ (الأعراف : ١٨) قال المبرد الدحور أشد الصغار والذل وقال ابن قتيبة دحرته دحراً ودحوراً أي دفعته وطردته.
البحث الثاني : في انتصاب قوله :﴿دُحُورًا ﴾ وجوه الأول : أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحوراً، ودل على الفعل قوله تعالى :﴿وَيُقْذَفُونَ﴾ الثاني : التقدير ويقذفون للدحول ثم حذف اللام الثالث : قال مجاهد دحوراً مطرودين، فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالركوع والسجود والحضور.
البحث الثالث : قرأ أبو عبد الرحمن السملي دحوراً بفتح الدال قال الفراء كأنه قال يقذفون يدحرون بما يدحر، ثم قال ولست أشتهي الفتح، لأنه لو وجد ذلك على صحة لكان فيها الباء كما تقول يقذفون بالحجارة ولا تقول يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر :
تعال اللحم للأضياف نيئاً


الصفحة التالية
Icon