ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يوجب التسلية له في كفرهم وتكذيبهم، فقال :﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ﴾ فبين تعالى أن إرساله للرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف، ويجب أن يكون له صلى الله عليه وسلّم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا، ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا، فليس عليه إلا البلاغ.
ثم قال تعالى :﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ﴾ وهذا وإن كان في الظاهر خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلّم، إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار جميع ما جرى من أنواع العذاب على قوم نوح وعلى عاد وثمود وغيرهم، فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوف يصلح أن % يكون زاجراً لهم عن كفرهم. وقوله تعالى :﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ فيه قولان أحدهما : أنه استثناء من قوله :﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ﴾ والثاني : أنه استثناء من قوله :﴿كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ﴾ (يونس : ٧٣) فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٤٣
٣٤٥
اعلم أنه تعالى لما قال من قبل :﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ﴾ (الصافات : ٧١) وقال :﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ﴾ (الصافات : ٧٣) أتبعه بشرح وقائع الأنبياء عليهم السلام فالقصة الأولى : حكاية حال نوح عليه السلام وقوله :﴿وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ فيه مباحث :
الأول : أن اللام في قوله :﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ جواب قسم محذوف والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلنعم المجيبون نحن.
البحث الثاني : أنه تعالى ذكر أن نوحاً نادى ولم يذكر أن ذلك النداء في أي الوقائع كان ؟
لا جرم حصل فيه قولان الأول : وهو المشهور عند الجمهور أنه نادى الرب تعالى في أن ينجيه من محنة الغرق وكرب تلك الواقعة والقول الثاني : أن نوحاً عليه السلام لما اشتغل بدعوة قومه إلى الدين الحق بالغوا في إيذائه وقصدوا قتله، ثم إنه عليه السلام نادى ربه واستنصره على كفار قومه، فأجابه الله تعالى ومنعهم من قتله وإيذائه، واحتج هذا القائل على ضعف القول الأول بأنه عليه السلام إنما دعا عليهم لأجل أن ينجيه الله تعالى وأوله، وأجاب الله دعاءه فيه فكان حصول تل كالناة كالمعلوم المتيقن في دعائه، وذلك يمنع من أن يقال المطلوب من هذا النداء حصول هذه النجاة.
ثم إنه تعالى لما حكى عن نوح أنه ناداه قال بعده :﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ وهذه اللفظة تدل على أن/ تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة، وبيانه من وجوه الأول : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال :﴿وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ﴾ والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم والثاني : أنه أعاد صيغة الجمع في قوله :﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ وذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة. لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة والثالث : أن الفاء في قوله :﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ يدل على أن حصول هذه الإجابة مرتب على ذلك النداء، والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معللاً به، وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة، ثم إنه تعالى لما بين أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة من وجوه الأول : قوله تعالى :﴿وَنَجَّيْنَـاهُ وَأَهْلَه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ وهو على القول الأول الكرب الحاصل بسبب الخوف من الغرق، وعلى الثاني الكرب الحاصل من أذى قومه والثاني : قوله :﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَه هُمُ الْبَاقِينَ﴾ يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا، قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة : سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٤٥
النعمة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ﴾ يعني يذكرون هذه الكلمة، فإن قيل فما معنى قوله :﴿فِى الْعَـالَمِينَ﴾ قلنا معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً أي لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين فيسلمون عليه بكليتهم، ثم إنه تعالى لما شرح تفاصيل إنعامه عليه قال :﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ والمعنى أنا إنما خصصنا نوحاً عليه السلام بتلك التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوأة من ذريته ومن تبقية ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسناً، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً لله مؤمناً، والمقصود منه بيان أن أعظم الدرجات وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.


الصفحة التالية
Icon