المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته، وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى.
المسألة الثانية : في قوله (العنكبوت : ٢٦) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته، وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى.
المسألة الثانية : في قوله ﴿وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى﴾ قولان الأول : المراد منه مفارقة تلك الديار، والمعنى إني ذاهب إلى مواضع دين ربي والثول الثاني : قال الكلبي : ذاهب بعبادتي إلى ربي، فعلى القول الأول المراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار، وبه اقتدى موسى حيث قال :﴿كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء : ٦٢) وعلى القول الثاني المراد رعاية أحوال القلوب، وهو أن لا يأتي/ بشيء من الأعمال إلا لله تعالى، كما قال :﴿وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ (الأنعام : ٧٩) قيل إن القول الأول أولى، لأن المقصود من هذه الآية بيان مهاجرته إلى أرض الشأم، وأيضاً يبعد حمله على الهداية في الدين، لأنه كان على الدين في ذلك الوقت إلا أن يحمل ذلك على الثبات عليه، أو يحمل ذلك على الاهتداء إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في أمر الدين.
المسألة الثالثة : قوله :﴿سَيَهْدِينِ﴾ يدل على أن الهداية لا تحصل إلا من الله تعالى، كما يقول أصحابنا ولا يمكن حمل هذه الهداية على وضع الأدلة وإزاحة الأعذار، لأن كل ذلك قد حصل في الزمان الماضي، وقوله : يدل على اختصاص تلك الهدية بالمستقبل، فوجبحمل الهداية في هذه الآية على تحصيل العلم والمعرفة في قلبه، فإن قيل إبراهيم عليه السلام جزم في هذه الآية بأنه تعالى سيهديه، وأن موسى عليه السلام لم يجزم به، بل قال :﴿قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ (القصص : ٢٢) فما الفرق ؟
قلنا العبد إذا تجلى له مقامات رحمة الله فقد يجزم بحصول المقصود، وإذا تجلى له مقامات كونه غنياً عن العالمين، فحينئذٍ يستحقر نفسه فلا يجزم، بل لا يظهر إلا الرجاء والطمع.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٣
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى﴾ يدل على فساد تمسك المشبهة بقوله تعالى :﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ (فاطر : ١٠) لأن كلمة إلى موجودة في قوله :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى﴾ مع أنه لم يلزم أن يكون الإله موجوداً في ذلك المكان، فكذلك ههنا.
واعلم أنه صلوات الله عليه لما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال :﴿هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ أي هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأن لفظ الهبة غلب في الولد، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى :﴿وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا﴾ (مريم : ٥٣) وقال تعالى :﴿وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ (الأنبياء : ٧٢) ﴿وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى ﴾ (الأنبياء : ٩٠) وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم حين هنأه بولده : على أبي الأملاك شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، ولذلك وقعت التسمية بهبة الله تعالى وبهبهة الوهاب وبموهوب ووهب.
واعلم أن هذا الدعاء اشتمل على ثلاثة أشياء : على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليماً، وأي حلم يكون أعظم من ولد حين عرض عليه أبوه الذبح ﴿قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾ (الصافات : ١٠٢) ثم استسلم لذلك، وأيضاً فإن إبراهيم عليه السلام كان موصوفاً بالحلم، قال تعالى :﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ (التوبة : ١١٤) ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ (هود : ٧٥) فبين أن ولده موصوف بالحلم، وأنه قائم مقامه في صفات الشرف والفضيلة، واعلم أن الصلاح أفضل الصفات بدليل أن الخليل عليه السلام طلب الصلاح لنفسه، فقال :﴿رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ (الشعراء : ٨٣) وطلبه للولد فقال :﴿رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ وطلبه سليمان عليه السلام بعد كمال درجته في الدين والدنيا، فقال :﴿وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ﴾ (النمل : ١٩) وذلك يدل على أن الصلاح أشرف مقامات العباد.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٣
٣٥٥


الصفحة التالية
Icon