واعلم أن سبحانه وتعالى لما قال :﴿فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ﴾ (الصافات : ١٠١) أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلغه، فقال :﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ﴾ ومعناه فلما أدرك وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي، وقوله :﴿مَعَهُ﴾ في موضع الحال والتقدير كائناً معه، والفائدة في اعتبار هذا المعنى أن الأب أرفق الناس بالولد، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته، قال بعضهم : كان في ذلك الوقت ابن ثلاث عشرة سنة، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى لما وعده في الآية الأولى بكون ذلك الغلام حليماً، بين في هذه الآية ما يدل على كمال حلمه، وذلك لأنه كان به من كمال الحلم وفسحة الصدر ما قواه على احتمال تلك البلية العظيمة، والإتيان بذلك الجواب الحسن.
أما قوله :﴿إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه اللفظة وجهان الأول : قال السدي : كان إبراهيم حين بشر بإسحق قبل أن يولد له قال : هو إذن لله ذبيح فقيل زبراهيم قد نذرت نذراً فف بنرك فلما أصبح ﴿قَالَ يَـابُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ﴾.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
وروي من طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه، كأن قائلاً يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هدا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟
فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر وهذا هو قول أهل التفسير وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة، وعلى هذا فتقدير اللفظ : إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك والقول الثاني : أنه رأى في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح، فإن قيل إما أن يقال إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء عليهم السلام أن كل ما رآه في المنام فهو حق حجة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم، فإن كان الأول فلم راجع الولد في هذه الواقعة، بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور، وأن لا يراجع الولد فيه، وأن لا يقول له ؛ ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد ﴿افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾ ؟
، وأيضاً فقد قلتم إنه بقي في اليوم الأول متفكراً، ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة، وإن كان الثاني، وهو أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يرونه في المنام حق، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة ؟
والجواب : لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا متردداً فيه ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح، والله أعلم.
المسأل الثانية : اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو ؟
فقيل إنه إسحق وهذ قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم، وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي، واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه : الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :"أنا ابن الذبيحين" وقال له أعرابي :"يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، والذبيح الثاني إسماعيل".
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
الحجة الثانية : نقل عن اوصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال : يا أصمعي أين عقلك، ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه المنحر بمكة ؟
الحجة الثالثة : أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحق في قوله :﴿وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِا كُلٌّ مِّنَ الصَّـابِرِينَ﴾ (الأنبياء : ٨٥) وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد في قوله :﴿إِنَّه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ (مريم : ٥٤) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.


الصفحة التالية
Icon