المسألة الثالثة : اختلف الناس في أن إبراهيم عليه السلام كان مأموراً بهذا بما رأى، وهذا الاختلاف مفرع على مسألة من مسائل أصول الفقه، وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال فقال أكثر أصحابنا إنه يجوز، وقالت المعتزلة وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية إنه لا يجوز، فعلى القول الأول أنه سبحانه وتعالى أمره بالذبح، ثم إنه تعالى نسخ هذا التكليف قبل حضور وقته، وعلى القول الثاني أنه تعالى ما أمره بالذبح، وإنما أمره بمقدمات الذبح وهذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ، واحتج أصحابنا على أنه يجوز نسخ الأمر قبل مجيء مدة الامتثال بأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم إنه تعالى نسخه عنه قبل إقدامه عليه وذلك يفيد المطلوب إنما قلنا إنه تعالى أمره بذبح الولد لوجهين الأول : أنه عليه السلام قال لولده إني أرى في المنام أني أذبحك فقال الولد افعل ما تؤمر وهذا يدل على أنه عليه السلام كان مأموراً بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح، ثم إنه أتى بمقدمات الذبلح وأدخلها في الوجود، فحينئذٍ يكون قد أمر بشيء وقد أتى به، وفي هذا الموضع لا يحتاج إلى الفداء، لكنه احتاج إلى الفداء بدليل قوله تعالى :﴿وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ فدل هذا على أنه أتى بالمأمور به، وقد ثبت أنه أتى بكل مقدمات الذبح، وهذا يدل على أنه تعالى كان قد أمره بنفس الذبح، وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى نسخ ذلك الحكم قبل إثباته وذلك يدل على المقصود، وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الله أمره بذبح الولد بل نقول إنه تعالى أمره بمقدمات الذبح، ويدل عليه وجوه الأول : أنه ما أتى بالذبح وإنما أتى بمقدمات الذبح، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به بدليل قوله تعالى :﴿وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ ﴾ وذلك يدل على أنه تعالى إنما أمره في المنام بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح وتلك المقدمات عبارة عن إضجاعه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل إن ورد الأمر الثاني : الذبح عبارة عن قطع الحلقوم فلعل إبراهيم عليه السلام قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله التأليف إليه، فلهذا السبب لم يحصل الموت والوجه الثالث : وهو الذي عليه تعويل القوم أنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعل معين في وقت معين/ فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن، فإذا أنهاه عنه فذلك النهي يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت قبيح، فلو حصل هذا النهي عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين، لأنه تعالى إن كان عالماً بحال ذلك الفعل لزم أن يقال إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى وإنه محال، فهذا تمام الكلام في هذا الباب والجواب : عن الأول أنا قد دللنا على أنه تعالى إنما أمره بالذبح.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
أما قوله تعالى :﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ ﴾ فهذا يدل على أنه اعترف بكون تلك الرؤيا واجب العمل بها ولا يدل على أنه أتى بكل ما رآه في ذلك المام. وأما قوله ثانياً كلما قطع إبراهيم عليه السلام جزءاً أعاد الله تعالى التأليف إليه، فنقول هذا باطل لأن إبراهيم عليه السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بما أمر به. وأما قوله ثالثاً إنه يلزم، إما الأمر بالقبيح وإما الجهل، فنقول هذا بناءً على أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا ينهي إلا عما يكون قبيحاً في ذاته، وذلك بناءً على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل، وأيضاً فهب أنا نسلم ذلك إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشيء تارة يحسن لكون المأمور به حسناً وتارة لأجل أن ذلك الأمر يفيد صحة مصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يروض عبده، فإنه يقول له إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلاني، ويكون ذلك الفعل من الأفعال الشاقة، ويكون مقصود السيد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل، بل أن يوطن العبد نفسه على ازنقياد والطاعة، ثم إن السيد إذا علم منه أنه وطن نفسه على الطاعة فقد يزيل الألم عنه ذلك التكليف، فكذا ههنا، فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا الاحتمال لم يتم كلامكم.


الصفحة التالية
Icon