المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، والدليل عليه أنه أمر بالذبح وما أراد وقوعه، أما أنه أمر بالذبح فلما تقدم في المسألة الأولى. وأما أنه ما أراد وقوعه فلأن عندنا أن كل ما أراد الله وقوعه فإنه يقع، وحيث لم يقع هذا الذبح علمنا أنه تعالى ما أراد وقوعه، وأما عند المعتزلة فلأن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح، والنهي عن الشيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح، وثبت أنه تعالى ما أراده، وذلك يدل على أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة، وتمام الكلام في أن الله تعالى أمر بالذبح ما تقدم في المسألة المتقدمة، والله أعلم.
المسألة الخامسة : في بيان الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة وبيانه من وجوه الأول : أن هذا التكليف كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح، فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمنبه لورود هذا التكليف الشاق، ثم يتأكد حال النوم بأحوال اليقظة، فحينئذٍ لا يهجم هذا التكليف دفعة واحدة بل شيئاً فشيئاً الثاني : أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقاً، قال الله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلّم :﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّا لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ (الفتح : ٢٧) وقال عن يوسف عليه السلام :﴿إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ﴾ (يوسف : ٤) وقال في حق إبراهيم عليه السلام :﴿إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ﴾ (الصافات : ١٠٢) والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين، لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام/ فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق، كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال، والله أعلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
ثم نقول مقامات الأنبياء عليهم السلام على ثلاثة أقسام منها ما يقع على وفق الرؤية كما في قوله تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلّم :﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ ثم وقع ذلك الشيء بعينه، ومنها ما يقع على الضد كما في حق إبراهيم عليه السلام فإنه رأى الذبح وكان الحاصل هو الفداء والنجاة، ومنها ما يقع على ضرب من التأويل والمناسبة كما في رؤيا يوسف عليه السلام، فلهذا السبب أطبق أهل التعبير على أن المنامات واقعة على هذه الوجوه الثلاثة.
المسألة السادسة : قرأ حمزة والكسائي :﴿تَرَى ﴾ بضم التاء وكسر الراء، أن ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم ؟
وقيل ما تشير، والباقون بفتح التاء، ثم منهم من يميل ومنهم من لا يميل.
المسألة السابعة : الحكمة في مشاورة الإبن في هذا الباب أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالمية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا، ثم إنه تعالى حكى من ولد إبراهيم عليه السلام أنه قال :﴿افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾ ومعناه افعل ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله :
أمرتك الخبر فافعل ما أمرت (به)
ثم قال :﴿سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ﴾ وإنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّآ أَسْلَمَا﴾ يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد، وقد قرىء بهن جميعاً إذ انقاد له وخضع، وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له، ومعناه سلم من أن ينازع فيه، وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان عنه بالهمزة، وحقيقة معناها أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله وعن قتادة في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه، ثم قال تعالى : دوتله للجبين} أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان، والجبهة بينهما، قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع، فالمعنى أنه صرعه على جبينه، وقال مقاتل كبه على جبهته، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
ثم قال تعالى : أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان، والجبهة بينهما، قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع، فالمعنى أنه صرعه على جبينه، وقال مقاتل كبه على جبهته، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة.


الصفحة التالية
Icon